أصوات السياسيين البريطانيين المنهكة، وملامح وجوههم المنكسرة، والإسهال فى مقابلاتهم الصحفية والتليفزيونية خلال الأيام الماضية تذكر بوقفة الرئيس التونسى المخلوع زين العابدين بن على الشهيرة، مساء الخميس 13 يناير 2011، مهزوزا أمام الكاميرا ليقول للتونسيين الثائرين: «أنا فهمتكم.. فهمت الجميع.. الوضع يفرض تغييرا عميقا شاملا». رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، قالها للبريطانيين المنتفضين، عبر صناديق الانتخابات التى جرت يوم 22 الشهر الماضي: أود أن أقول إن الرسالة، يقينا، وصلت.. وفٌهمت. مضمون الرسالة كما فهمها كاميرون هو التغيير والإصلاح ضروريان. إيد ميليباند، زعيم المعارضة العمالية، لم يرد أن يبدو كالببغاء مرددا كلام خصمه السياسى بالحرف، فقال إنه تلقى رسالة الناخبين. وقطع على نفسه وعودا عدة منها إعادة بناء التضامن مع الناس والإحساس بنبض المجتمع والاستجابة لرغبة الشعب فى التغيير. نيك كليج، نائب رئيس الوزراء زعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين، الشريك الأصغر فى الحكومة الائتلافية، اعترف بنبرة محبطة بأن نتائج حزبه فى الانتخابات هى فعلا «نكسة هائلة». وقال "من الصائب بالطبع أن تثار تساؤلات بحثا عن أسباب ما جرى بعد مجموعة النتائج (الانتخابية) السيئة. هذه النتائج، التى كانت حكما شعبيا قاسيا على السياسيين الذين يتصدرون المشهد السياسى فى بريطانيا، أربكت حسابات الجميع. ففى انتخابات المجالس المحلية، خسر حزب المحافظين الحاكم السيطرة على 41 مجلسا دفعة واحدة وفقد معها 236 مقعدا. أما حزب العمال، فلم يتمكن إلا من كسب 6 مجالس فقط منحته 324 مقعدا، وهى نتائج أقل بكثير من توقعات حملته الدعائية الانتخابية التى صورت الحزب وكأنه على وشك الإطاحة بالمحافظين من الحكم. وبقدر حجمه، وهو أصغر الثلاثة الكبار، مُنى حزب الديمقراطيين الليبراليين بهزيمة مذلة، إذ خسر اثنين من الثمانية مجالس التى كان يسيطر عليها وفقد معها 310 مقاعد. نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى أعادت هى الأخرى رسم خريطة شعبية الأحزاب. فقد خسر المحافظين المركز الأول بفقدان 7 مقاعد، ولم يحقق حزب العمال سوى 7 مقاعد رغم تفاؤله المفرط بتحقيق المزيد. وتراجع ترتيب حزب الديمقراطيين الليبراليين من المرتبة الرابعة إلى السادسة بعد خسارته 10 مقاعد ليتبقى له مقعد واحد فقط! وتبين للأحزاب البريطانية الرئيسية خطيئتها الكبرى وهى التهوين من شأن حزب استقلال المملكة المتحدة اليمينى بزعامة نايجل فاراج. فالحزب، الذى وصفه نواب محافظون وسياسيون منهم كاميرون نفسه، بأنه حزب "من الهامشيين والمهرجين، والمعتوهين، طعن الأحزاب الكبرى فى صميم القلب. صحيح أن الحزب لم يتمكن من السيطرة على مجلس محلى واحد، لكنه رفع عدد مقاعده من اثنين فقط إلى 163 مقعدا، حتى إنه فاز فى الدائرة التى يمثلها زعيم المعارضة (ميليباند) فى البرلمان. وفى انتخابات البرلمان الأوروبى، كسح حزب الاستقلال الجميع ليتصدر المركز الأول بمضاعفة عدد مقاعده تقريبا من 13 إلى 24 مقعدا. قبل سنوات قليلة، سار شعور بالتفاؤل فى أوصال الحياة السياسية فى بريطانيا بعد أن جددت دماءها بوجوه شباب عفية قادت الأحزاب (كاميرون، 47عاما، ميليباند، 44 عاما، كليج 47 عاما). لكن الانتخابات الأخيرة كشفت عن أن البريطانيين لم يعودوا يهتمون بالوجوه الشابة النابضة ذات الأصوات القوية فى البرلمان وأمام الكاميرات بل بالسياسات التى تعبر عن شعور بمشاكلهم. وهذا ما فعله فاراج أكبر قادة الأحزاب سنا (50 عاما). ولم يكن ويليام هيج، زعيم حزب المحافظين السابق ووزير الخارجية الحالي، يعبر عن حالة الارتباك فى حزبه فقط عندما قال، تعليقا على ثورة الصناديق التى فجرت ربيع بريطانيا المصحوب برياح عاتية تهدد مستقبل السياسيين الحاليين إن الأمر صعب بالنسبة للانتخابات العامة. الجميع يعيد الآن تقييم سياسته ليحدد مواطن الضعف والقوة. ولم يضع كاميرون وقتا وضغط على أزرار آلة الإعلام وأمخاخ التخطيط السياسى فى حزبه. وهم الآن يتحدثون عن سياسة جديدة فى الاتصال بالناس والاقتراب أكثر من مشاكلهم. ولوحظ أن كاميرون بدا وكأنه ودع الراحة من الآن وحتى الانتخابات العامة فى مايو 2015. ويجتهد حاليا لضخ كميات أكبر من الأوكسجين فى خططه الداخلية والاوروبية . فى الأولى، يقول كاميرون إن برنامج "المساعدة على الشراء، الذى يوفر ضمانات قروض عقارية، أعان نحو 7500 شخص على شراء منزل خاص بدلا من الإيجار. وأقر بأنه لم يعد هناك مجال لدفن الرأس فى الرمل وتجاهل إحباط الناس من القرارات الصعبة التى اتخذها عقب توليه السلطة عام 2010 ومنها تجميد رواتب القطاع العام وترشيد الإعانات الاجتماعية لضمان وصولها لمن يستحق. ومنذ أيام، أبلغ كاميرون قادة أوروبا فى قمتهم الأولى بعد الانتخابات، بأن الوضع الحالى لم يعد متحملا، لأن أجهزة الاتحاد الأوروبى تضخمت أكثر من اللازم، وأصبح أكثر تحكما وتدخلا فى شئون الدول الأعضاء، ونقل إليهم بعصبية، أظهرتها الكاميرات، رسالة ناخبيه الغاضبين قائلا "نريد تغييرا. وتبعته وزيرة الداخلية البريطانية ثريزا ماى بوعد للبريطانيين بأن "تدرس ترحيل الأوروبيين الذين جاءوا إلى المملكة المتحدة للعمل ولكنهم لم يتمكنوا من العثور على وظيفة بعد 6 أشهر. نتائج هذه اليقظة سوف تكون محل اختبار وشيك. ففى الخامس من يونيو، ستجرى انتخابات تكيميلية لاختيار نائب جديد عن دائرة «نيورك»، بعد استقالة النائب الحالى بسبب خرقه قوانين بالبرلمان بتقديم استجوابات مقابل رشاوى مالية. وسيكون الاختبار بالغ الصعوبة لأن حزب الاستقلال يصعد حملته للفوز بالمقعد (الذى قد يكون الأول للحزب فى مجلس العموم). وأمل فاراج كبير فى انتزاع حزبه مقعد الدائرة، خاصة بعد ان تفوق الحزب على المحافظين فيها خلال انتخابات البرلمان الأوروبى الأخيرة. فى حزب العمال، ظهرت بوادر حرب أهلية تستهدف الإطاحة بالزعيم ميليباند لأنه لم يعد قادرا على توصيل رسالة الحزب وعلى انتهاز فرصة تدنى شعبية حزبى الحكومة الائتلافية الحالية. وصارحت هاريت هيرمان، نائبة زعيم الحزب بأن رسائل الحزب لم تكن متسقة مع نفسها ولم تقدم رؤية بديلة واضحة، خاصة فى الاقتصاد، تقنع الناخبين. كما لم يطرح الحزب سياسة واضحة بشأن العلاقة مع أوروبا والموقف من استفتاء الشعب بشأن بقاء بريطانيا فى الاتحاد الأوروبي. ولهذا تجرأ فاراج على الإعلان على أنه سوف يدشن برنامج حزبه السياسى للانتخابات البرلمانية العام القادم من قلب الدائرة الانتخابية التى يمثلها ميليباند فى البرلمان، متوعدا بانتزاع المقعد منه. وضع حزب الديمقراطيين الليبراليين، أكبر الخاسرين، أصعب بكثير. فحربه الداخلية ذاعت أخبارها لتكشف دعوات صريحة بإزاحة الزعيم كليج بعد أن أدت سياساته، المتحالفة فى السلطة مع المحافظين، إلى تحمل نصيبه من غضب الناخبين على الحكومة بالخسائر الفادحة فى الانتخابات. يقاوم كليج ومعسكره بكل ما أوتى من قدرات سياسية، محاولات إسقاطه. غير أنه عندما يتعلق الأمر بالانتخابات البرلمانية المقبلة، التى تبدو فرص الحزب فيها ضئيلة بعد الهزيمة المنكرة فى انتخابات المحليات والبرلمان الأوروبى الأخيرة، فإن كليج يحتاج إلى معجزة للبقاء زعيما لحزب يوشك أن يفقد حتى مركزه الثالث الذى يحتفظ به منذ عقود.