شغلت وما زالت تشغل قضية استخدام الفحم كوقود فى الصناعة خاصة الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة الرأى العام من متخصصين وغير متخصصين. ولأنها قضية تمس صحة وحياة المواطن المنهك بطبيعته والمتعرض للتلوث فى الماء والهواء ليس بسبب الصناعة وحدها ولكن لأسباب أخرى كثيرة . المواطن نفسه مشارك فيها وفاعل من ضمن الفاعلين الحكوميين لتركهم المصانع تصب مخلفاتها فى الأنهار والترع وغيرها الكثير. كما أن المواطن هو الذى يلوث مياه النيل بصب مخلفاته فيه وزراعة ما يأكله البشر على ماء الصرف الصحى وهو الذى يحرق قش الأرز فى الهواء الطلق وهو الذى يلقى زبالته فى أى مكان يروق له وغيرها الكثير والكثير. فلا رقابة حازمة ولا إجراء رادعا ولا بديل توفره له لكى لا يفعل كل ذلك وبهذا نكون جميعاً مسئولين. نأتى لقضية استخدام الفحم فى المصانع الكثيفة الاستهلاك للطاقة فنجد الدولة معذورة فى اللجوء إليه لأن البديل هو توقف هذه المصانع والبيئة أيضاً معذورة لأن مهمتها الأولى والأخيرة الحفاظ على البيئة وعلى صحة الإنسان المصرى الذى ليست لديه مساحة الآن لمزيد من التلوث . ولكى نكون منصفين هناك مجموعة من الأسئلة أتوقع أن تكون الدولة قد أجابت عنها قبل اتخاذ القرار. كما أنه من المؤكد أن القرار اعتمد على أن الفحم يستخدم من الأزل كمصدر للطاقة وأنه ما زال يستخدم فى دول خارجية كبرى وصغرى وكذلك ليس الفحم هو فقط الذى تصدر منه انبعاثات ضارة بالقطع كل الصناعات سواء كانت هندسية أو كيميائية أو بتروكيماوية أو مواد بناء تصدر عنها انبعاثات ضارة بالبيئة وبالإنسان. ووجود هذا الضرر لا يعنى وقف هذه الصناعات فمنها من يصدر عنه أخطر المركبات الكيميائية كالكلور والأمونيا وأول أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت وغيرها من الغازات والأتربة. والعبرة فى النهاية فى قدرة الدولة على وقف هذه المخاطر والتحكم فيها وهو أمر موجود فى بعض الحالات وغير موجود فى كثير من الحالات. فقضية أتربة صناعات الأسمنت والسيراميك ومنذ سنوات مثار جدل ومراوغة أحياناً فى وقف منع تسربها ومنعه وما زالت أكثر من حدها الأقصى ليس طبقاً للمعايير الأوروبية ولكن حتى بالنسبة للمعايير البيئية المصرية الأخف منها لتقادم هذه المصانع واعتلاء الربحية قمة أهدافها. ولكى يكون هناك قرار يراعى كل الاعتبارات يجب الإجابة عن هذه التساؤلات المهمة قبل تنفيذ القرار المكون من شقين هما السماح باستيراد الفحم مع الالتزام بالمعايير البيئية. والجزء المؤكد أنه سيتم استيراد الفحم أما الاعتبارات البيئية فمن المؤكد أيضاً انه ستكون هناك مقاومة فى تنفيذها من البعض لأنها مكلفة إذا تم الالتزام الكامل بها. والحقائق التى أمامنا هى أن هناك أزمة فى الطاقة فى مصر تهدد الصناعة والزراعة والمعيشة الحياتية. وأنه لا بدائل حالياً تعوض النقص فى هذه الطاقة سوى بدائل مستقبلية تتوقف على جدية السير فى اتجاهها لأنها ما زالت لم تؤخذ جدياً طوال سنوات عديدة وأهمها الطاقة الجديدة والمتجددة كما ان الهدر فى الطاقة فى الصناعة يصل الى 40% وقبل تنفيذ القرار يأتى السؤال الأهم: هل تم الاستعداد والتجهيز بيئياً لدرء الخطر فى الشحن والتفريغ والنقل والتداول خارج المنشأة وداخلها والتحكم فى الغازات الناتجة والأتربة المصاحبة لاستخدامه قبل السماح بالاستيراد. والسؤال هناايضا هل سيكون السماح بالاستيراد لفترة زمنية محددة أم مفتوحة؟ وهل سيكون الاستيراد مربوطا بحاجة المصانع الفعلية طبقاً لطاقتها الإنتاجية. وهناتساؤل ايضا هل المصانع والمحطات التى لا تعمل بالفحم حالياً مجهزة فنياً لاستخدامه وهل هناك قيمة تقديرية لحجم الاستيراد الكلى سنوياً لهذه المصانع؟ وهل سيسمح بالاستيراد بضوابط تراعى هذا الحجم أو متروك للاتجار ممن لا شأن لهم بالصناعة بالإضافة إلى التزام المصانع بها دون اعتراض قبل السماح بالاستيراد. وهل توافق الشركات على تعديل وسائل إنتاجها لاستيعاب استخدام الفحم بديلاً عن المحروقات الأخرى والتحول مرة أخرى عندما تنتفى اعتبارات الضرورة. وفى إطار المعايير البيئية لا بد من تبنى المعايير الدولية دون أى تنازل أو استجابة لضغوط مهما كانت بحجة أن لكل دولة ظروفها لأن مصر ظروفها البيئية أسوأ من دول كثيرة بما يتطلب معايير أكثر تشدداً . على ضوء كل ما ورد نؤكد أن استخدام الفحم فى الصناعة ليس اختراعاً مصرياً يتطلب لخطورة انبعاثاته تعاملاً غير عادى فى الالتزامات ولذلك أرى أن يكون السماح باستيراد الفحم والاستخدام ليس مطلق العنان ولكن أن يكون لفترة زمنية محددة تجدد سنوياً على ضوء الالتزام وتوفير البدائل وألا الأمر للتخزين والتجارة بلا ضوابط. كما يتطلب الامرتعديل بعض مواد قانون البيئة الصادر سنة 1994 للتشديد على عقوبات المخالفة ولا يقتصر الأمر على تحرير محاضر مخالفات فما أكثرها بمئات الآلاف فى كل مجال عدداً وانعدام أثرها واقعاً. ويمكن أن يكون عدم الالتزام البيئى فى أول مخالفة غرامة باهظة وفى حالة التكرار توقف وحدة استخدام الفحم بالمصنع لحين توفيق أوضاعه مع الحرمان نهائيا اذا تكرر . والخلاصة فى هذا الأمر أن الدولة مضطرة لإقرار استخدام الفحم لقلة البدائل رغم أن البديل الوحيد المتاح السماح للمصانع باستيراد طاقتها سواء من الغاز أو بناءً محطات كهربائية وهو ما يستغرق زمناً مما يعطل هذا البديل حالياً. والفحم كحقيقة له خطورة فى انبعاثاته فى كل المراحل قد تزيد على انبعاثات أخرى ولكن كأى انبعاثات تحتاج معايير أدق والتزاما مؤكدا مع مراعاة المسافات البينية بين المصنع وأماكن السكن الخاصة بالمواطنين حيث التأثير الأشد وبالتالى المعايير الأدق. مع أهمية البحث عن البدائل والعمل فى اتجاهها دون الاعتماد على هذا القرار للأبد ودخوله مرحلة النسيان فيستمر الاستيراد وتخف حدة الالتزام. ولضمان ذلك أرى تشكيل لجنة خاصة من خبراء الصناعة والبيئة لمتابعة التنفيذ فى الالتزامات البيئية وأن تعلن هذه اللجنة موقف التجهيز للالتزامات بالموانى والنقل والتخزين والاستخدام ومراجعة الاحتياجات الفعلية ومتابعة موقف تدبير البدائل. وأرجو ألا يتصور البعض أن الفحم خطر كما لو كان من المواد النووية فهو أحد بدائل الاستخدامات فى الصناعة، كما أن المعايير البيئية ليست تخص الفحم فقط فهى عامة وخاصة لكل صناعة بذاتها والتقدم فى الصناعة لا يأتى أبدًا دون مراعاة هذه المعايير البيئية . فالسماح باستخدام الفحم لا بد معه من التشدد فى منع انبعاثاته وتداوله لكى لا تكون الصناعة على حساب أرواح البشر. وزير الصناعة الأسبق لمزيد من مقالات محمود عيسى