تلك النفس الربيعية، ولدت فى السادس من مارس ورحلت فى السابع عشر من إبريل. كثيرون فارقونا فى إبريل: جمال حمدان (17 إبريل) وصلاح چاهين وسيد مكاوى (21 إبريل), لكن ماركيز دخل هذا العالم وغادره من باب الربيع، ففى 6 مارس 1927 ولد، وفى الخميس الماضى فاضت روحه، كأنها نفثة ورد. لا أكتب هذا من قبيل الشعر أو الإنشاء، فمن قرأ ماركيز لابد ويعرف شيئين: مدى العذوبة التى كان يكتب بها، حتى وهو يصف الحزن والعنف والدم والقبح والموت، ثم مدى الحضور الكاسح للحب وللحياة، وانتصار الحب والحياة على الدمار والموت حتى والأرضة تلتهم أرض وسقف وجدران وأساسات وأثاث ذلك البيت الخشبى الذى عاش مائة عام من العزلة المزدحمة بالعشق والعشاق، فى قرية ماكوندو التى كانت معزولة حتى أتتها شركة احتكار الموز الأمريكية. كانت رواية “مائة عام من العزلة” (1967) مما شكل ذوقى ووعيى ووجدانى كقارىء للأدب. وهى من الأعمال التى تستطيع أن تقرأها عشر مرات دون أن تمل، تماماً ك “عودة الروح” للحكيم و”الحرافيش” و”الثلاثية” و”ليالى ألف ليلة” لنجيب محفوظ، وغيرها من أعمال، سواء فى أدبنا أم فى آداب أخرى. كذلك أتذكر له بكل الحب قصته القصيرة الطويلة - أو روايته القصيرة إن شئت - الحكاية العجيبة والحزينة لإيرينديرا البريئة مع جدتها التى لا قلب لها (1978). والعنوان يشبه قليلاً عناوين حكايات ألف ليلة وليلة. أما الحكاية نفسها فهى انتهاك براءة طفلة لإشباع النهم الجنسى لجيش بأسره من الجنود، وذلك سداداً لدين غامض تدعى الجدة أن حفيدتها البريئة عليها أن تسدده لها، بلا انقطاع وبلا رحمة. والحكاية تعيد سرد ما تفعله، أو كانت تفعله، الرأسمالية الأمريكية بجيرانها الجنوبيين، ولكنه هنا سرد على مستوى الرمز. وآخر عمل كبير قرأته لماركيز كان «الحب فى زمن الكوليرا» (1985)، وهى قصة حب بين شابين لا تتحقق إلا فى شيخوختهما. وهو انتصار آخر للحب يذكرنا ب مائة عام من العزلة، من هذه الزاوية فقط، لأنه عمل مختلف فى كل شىء. وكما أن الرواية الأقدم اشتهرت ب الواقعية السحرية أو الواقعية التى تمتزج معها عناصر غير واقعية دون أن يفقدها ذلك و اقعيتها، فإن «الحب فى زمن الكوليرا» تقدم لنا رؤية رومانسية لكنها واقعية، أرضية: فالعاشق فلورنتينو أريزا ينوى أن يظل مخلصاً لحبيبته التى تزوجت سواه، ويبر بنذره على مدى سنين وأعوام، إلا أنه لم يزل أحياناً رضوخاً لطاقة جنسية قاهرة. والجميل أن الرواية تقول إن فلورينتينو مخلص حتى وهو يستسلم أحياناً لنداء الجسد القاهر. وبعد وفاة أوربينو زوج محبوبته فيرمينا، وهما فى الشيخوخة، يتحقق حبهما الذى تأجل عشرات الأعوام. أرأيت كيف أن هذه النفس وردية؟ جاء فى أول الربيع ورحل فى أوجه، وتنفس حياته وأدبه أريجاً كما يليق بوردة. وخلاصة العطر تبقى لحسن الحظ، ولا تتبخر، بل تزداد وجوداً، كلما قلبنا الصفحات. كان ماركيز وردة، منحها عمله بالصحافة شوكة الواقع الأليمة، فكان كاتباً سياسياً واشتراكياً ديموقراطياً، يفضح الاستبداد والاحتكار الرأسمالى، دون أن يتنازل لحظة عن رقته، وعن أريج الوردة التى هى ابنة الربيع بامتياز، تؤمن بالحب والحياة وتحتفل بهما غير مغمضة العينين عن الواقع بغريزة ابن الصحافة ورشاقة راقص الباليه وعذوبة الشاعر. من هنا كان واقعه له وقع السحر، فوقع فى سحره ملايين القراء.. وأنا واحد منهم. ولا أريد أن أفيق.