جاء25 يناير الثاني مؤكدا لعودة الروح لنظيره الأول. رأيت الميدان جليلا ومهيبا وأنا أسير بين حشود آلافه المؤلفة( ملايينه؟) تخفق فوقهم آلاف الأعلام المتجاورة خيمة ترفرف تحية للوطن. وكان الحشد مهيبا أيضا بسلميته التي كذبت دعاوي الترويع بأن اليوم سيشهد فتنا واشتباكات وحرائق, ذكرني بيوم سابق كتبت عنه أيضا في هذا المكان هو27 مايو الذي تركوا فيه الميدان للشباب مع إنذارات مسبقة بأنهم سيعجزون عن حمايته, لكن الشباب الذي أنجز ثورة سلمية وحضارية لا سابقة لها, أثبت في كل الأحوال أنه قادر علي حماية ميدانه ما لم يرسلوا له عامدين البلطجية والقناصة. وارتفع في الميدان مطلب أساسي أجمع عليه المصريون من كل الفصائل والتيارات في المنصات واللافتات المرفوعة هو القصاص العاجل لشهداء الثورة وانطوي ذلك المطلب علي تغيير نهج وسرعة محاكمة رؤوس النظام الفاسد وإنهاء حكم المجلس العسكري الذي تقاعس عن تنفيذ هذا المطلب طوال فترة حكمه, وتطهير أجهزة الدولة من أذناب النظام الفاسد وبصفة خاصة في الإعلام الملوثة أيديه وقنواته بدم الشهداء الأبرار وجراح الضحايا عجزنا علي مدي عام عن تحقيق هذه الشروط الأولية لاستكمال الثورة فعاد يوم الثورة لتينبهنا أن نفيق حتي نسترد حق الشهداء ونستكمل ثورتهمه علي مدي العام تبعثرت الجهود وتعثرت الخطي. ورفضت سلطة الحكم الاستماع إلي أي نصح مخلص لتصحيح المسار وشنت حربها علي الثوار وواصلت تدليلها للفلول وأبناء مبارك. اعتذرت في البداية عن أخطاء ارتكبتها في حق الثوار لأن رصيدها لدي الشعب يسمح,كما قالت لكنها كررت بعد ذلك الأخطاء نفسها ونسيت أن تكرر الاعتذار. غاب عنها أن تدرك أن صبر الثوار والشعب عليها مرجعه أن رصيد جشينا الوطني لدي الشعب لا ينفد محبة وتقديرا فكان الحل الوحيد هو أن يفرق الناس والكتاب في حكمهم وتقديرهم بين الجيش الذي ينتمون إليه وينتمي لهم وبين المجلس العسكري الذي لم تعد تصرفاته تمثل القيم الوطنية الراسخة لقواتنا المسلحة. ولعل المجلس قد أدرك ذلك متأخرا ومن هنا جاء في رسائل التبرير والشرح والمصالحة عشية الخامس والعشرين( بما في ذلك توجيه التحية لشباب الثورة وإلغاء الطواريء.. الخ), لكن هذه الرسائل جاءت متأخرة جدا وقليلة جدا وأفسدت أثرها رسائل الترويع السابقة عليها من الإنذار بمخططات التخريب والحرائق المتوقع أندلاعها أو إشعالها من المتآمرين والمندسين وأصحاب الأجندات في الذكري الأولي للثورة. غير أن مظاهرات التحرير المليونية في كل مدن مصر جاءت تحمل رسائل أتمني أن تصغي لها جميع الأطراف. أولاها وأهمها بالطبع أن الثورة بحمد الله مستمرة. فعلي مدار العام ظلت قوتان رئيسيتان تحتلان الساحة السياسية هما المجلس العسكري والإخوان المسلمون وبدا للكثيرين أن هناك تحالفا بينهما, وبدا كلاهما حريصا علي إزاحة القوة الناشئة قوة شباب الثورة الذين يرجع لهم الفضل الأول في التغيير. تعامل الطرفان مع شباب الثورة باعتبارهم قوة مندثرة انتهي دورها ويجب أن تخلي الساحة لغيرها. وكم من مرة حذرت في هذا المنبر من خطرة ذلك الإقصاء ووجهت الدعوة إلي أن ترفع السلطة يدها عن شباب الثورة وأن تفسح لهم مجال التعبير عن أنفسهم والمشاركة في سلطة اتخاذ القرارات لصالح الثورة التي كانوا رأس حربتها ومنبع دماء شهدائها ولكن بدلا من الإصغاء إلي هذا الطلب المنطقي الذي شاركت فيه غيري كانت الاستجابة هي العنف المتواصل ضد هؤلاء الشبان بالمحاكمات العسكرية وتتابع عمليات القتل وفقء الأعين وهتك الأعراض بدءا بكشف العذرية وانتهاء بسحل الفتيات وتعريتهن, وتشكيل اللجان الالكترونية لتشويه سمعة الثوار وحملة الشائعات الرسمية وغير الرسمية لاتهامهم بالعمالة وتلقي التمويل الأجنبي والماسونية وتنفيذ أجندات ومخططات أجنبية. وتم إفساح المجال لأسوأ وأبذأ من في مصر قاطبة من إعلاميين وعملاء للنظام المقبور للتطاول علي أنبل شباب أنجبهم الوطن بعد أجيال من الإذلال والهوان. وبدا أن هؤلاء الشباب الذين لا يملكون سلاح العسكري ولا تنظيم الإخوان المحكم هم أضعف طرف في المعادلة السياسية. وأشار البعض باستخفاف إلي ضعف تمثيلهم في البرلمان كدليل علي قلة عددهم وقلة حيلتهم. غير أني لم أفقد الثقة أبدا في أنهم صوت الثورة الحقيقي وصوت المستقبل المأمول لمصر. وعندما حانت لحظة الفعل أثبتوا وجودهم وقدرتهم علي حشد الجماهير في كل مدن مصر وميادينها مثلما فعلوا أول مرة. وكان مصدر قوتهم التي استخف بها النظام هو فقط نداء الحرية التي تتعطش لها مصر. وأدرك أن ما سأقوله بعد ذلك قد لا يرضي كل القراء ولا كل الأصدقاء ولكنه يمثل باخلاص قراءاتي للموقف الراهن التي أطرحها للمناقشة. فقد أثبت ما حدث في مظاهرات25 المليونية وردود فعلها وجود ثلاث قوي رئيسية في المجتمع كما أشرت من قبل يحسن أن تعترف كل منها بالقوتين الأخريين وأن تتعامل معها بما يحقق مصلحة الوطن, وأذكرها فيما يلي دون ترتيب للأهمية ولكن ربما بحسب ترتيب تاريخي من نوع ما. أولا: قوة الجيش ممثلا الآن في المجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية طالت أم قصرت والأفضل أن تقصر. والمأمول أن يواصل المجلس خلال فترته المتبقية سياسة المهادنة الأخيرة التي أشرت إليها وربما يفكر أيضا في أن يجري بنفسه تغييرا داخل صفوفه لكي يسترد ثقة الشعب. وأي عاقل متابع للشأن المصري يدرك أن دور الجيش في الحياة السياسية المصرية لن ينتهي حتي بعد انتهاء الفترة الانتقالية وانتهاء ولاية المجلس الحالي والمجلس الذي يليه, دور الجيش راسخ في العالم الثالث وحتي في العالم الأول. وما ينبغي عمله هو تحجيم هذا الدور في إطار دستوري يكفل له أداء مهمته الأساسية في الدفاع عن الوطن وتقليص دوره في الحياة المدنية والسياسية. ثانيا: تيار الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين. ولهم الآن الأغلبية في البرلمان ووجود وتأثير واسع النطاق في المجتمع. وينبغي التسليم بهذه الحقيقة وإدراك أن تغييرها إذا ما حدث لن يتحقق إلا بالوسائل الديمقراطية والمنافسة الشريفة لكسب أصوات الجماهير. وأنا لست من أنصار الإخوان ولن أكون من أنصارهم يوما لإيماني الذي عبرت عنه هنا أكثر من مرة بأن الدولة المدنية هي التي تحقق مصلحة الدين والدنيا لأبنائها. وكل ما آمله من الإخوان وحلفائهم ألا تتحول أغلبيتهم إلي هيمنة واستئثار بالسلطة أو انفراد بالقرار بحكم الأغلبية العددية كما كان الحال أيام الحزب الوطني البائد. ثالثا: شباب الثورة كطليعة للشعب وللقوي المدنية للتغيير سواء من الحزبيين أو المستقلين( والشباب هم عندي بالطبع القوة الأولي) والمطلوب من القوتين الأخريين تعاون جديد وصادق مع هذه القوة والمطلوب منها توحيد جهودها, ليس بالضرورة في حزب أو ائتلاف واحد وإنما التوحد حول أهداف محددة وأولويات محددة والتعاون علي تحقيقها مع مواصلة الحفاظ علي سلمية الثورة التي لم يخرجوا عليها أبدا. ويجمل الأزهر الشريف تلك المعاني وأكثر منها بأنصع بيان في وثيقتيه الرائدتين عن طريق التعبير, واستكمال أهداف الثورة وأتمني العودة لهما كما وعدت من قبل. لو تحققت هذه الشروط الأولية التي ذكرتها فستبلغ ثورتنا أهدافها النبيلة ويصبح الوطن بالفعل محلا للسعادة المشتركة لأبنائه باذن الله. المزيد من مقالات بهاء طاهر