كلما قرأت تقريرا عن الفقر في العالم العربي تذكرت قول الشاعر عن( واو) عمرو الزائدة فيقول: خل عنا أنت فينا.. واو عمرو أو كالحديث المعاد, فانتشار الفقر وتفاقم مشكلاته الحياتية في كل المجالات . ولكنها تنتظر السياسات الاقتصادية والسياسية التي تحاصر أسبابه وتضع آليات عملية لوقف انتشاره المتفشي, فالحديث المعاد عن الفقر وتداعياته التي تطاردنا يوميا بحوادثها, خلق بالفعل مناخا اجتماعيا ضاغطا علي الغني والفقير علي السواء أدي للأسف إلي مختلف أشكال العنف المادي والمعنوي حتي أصبح لا يحتاج لدليل أو برهان علي وجود أزمة فقر فاجعة, ويأتي تقرير الجامعة العربية وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي الأخير عن حالة الفقر في الوطن العربي تكرارا للحديث المعاد عن الفقر وأسبابه وخطورته مما يستدعي ضرورة النضال السياسي والثقافي لمحاصرة هذا الغول وتحويل الغضب والخوف منه إلي قوة فعل منجزة وداعمة للبقاء الإنساني بكرامة كحق أساسي لكل إنسان. النضال السياسي وحباله الطويلة التي تمتد من داخل الوطن لخارجه وأحابيله المعقدة التي تصارع القلة المحلية المتحكمة في السلطة والثروة والقلة الدولية المستبدة بالعالم المتمثلة في الثمانية الكبارG8 الحامية للرأسمالية المتوحشة, والتي اقترن تاريخها بالعنف المنظم, منذ جلب العبيد لاستخدامهم في عملية الإنتاج الضخم وحتي تأثيرها المدمر علي مناخ الكرة الأرضية بأسره هذا النضال يحتاج إلي أزمنة طويلة وعمل نضالي يتطلب تعاونا أمميا وتكاملا عربيا لن تكون ثماره المرجوة دانية لقطفها في الشارع العربي المقهور لذا أعتقد أن النضال الثقافي الذي يشمل الثقافة الاجتماعية بروافدها الدينية والفنية المتعددة, طريقا في متناول الناس يعينهم علي هزيمة الفقر وتداعياته السيئة علي معاشهم يتحقق ذلك بإعادة النظر في موقفهم من الحياة ومن أنفسهم ومن الآخرين, ويقوم هذا النضال علي تعميق جماع القيم الإيجابية التي تقوي الشخصية والنفس وتعديل القيم السلبية التي تنمي الشعور بالإحباط والإحساس بالنقص والخوف من الفقر وبلاويه. وأتذكر للفنان المبدع نور الشريف رأيا جادا يحضرني بهذا الخصوص, وهذا الرأي لم يعلنه في أعماله السينمائية أو التليفزيونية العديدة ولكن في برنامج مهم عن السينما المصرية قدمه منذ عدة سنوات ولجدية طروحاته الفنية بوجه عام مازلت أتذكر تساؤله عن سبب اتفاق الأفلام المصرية قبل الثورة علي تمجيد الفقر وكأن الغني والثروة رذيلة مرتبطة بمنعدمي الخلق والسعي لهما يعتبر رذيلة يتسم بها الأشرار, فكان الفقر شرف الطيبين والغني دليل طمع الأشرار فيري فناننا الكبير أن هذه الفكرة تكرس للرضا بالفقر وتعوق التفكير في التطور وتحقيق الثراء المشروع إلا أنني أعتقد أن هذه الفكرة كانت استجابة من الفنانين في ذلك الوقت لاحتياج اجتماعي عام, حيث القلة الغنية المسيطرة علي الحكم وخيرات البلاد والغالبية تعاني الفقر والطبقة المتوسطة شريحة بسيطة بينهما تكافح للحفاظ علي موقعها بالاجتهاد والعمل علي خدمة الأغنياء. كانت فكرة تمجيد الفقر ترضي الجميع, فالأغنياء يضمنون عدم التمرد عليهم, والفقراء لا يحسون بالعار من فقرهم ماداموا شرفاء, وتتوافر لهم احتياجات أساسية بمعايير ذلك الوقت, واعتقد أن دور الفن كان في تمجيد قيم الرضا وضبط النفس وشهواتها وتهذيب الفكر ووضع آفاق أخلاقية رحبة تعمل علي استقرار المجتمع, ونبذ العنف حتي قامت الثورة وانحازت للفقراء وضمت شريحة كبيرة منهم إلي الطبقة الوسطي, فكان من أهم إنجازاتها تكوين طبقة متوسطة كبيرة حارسة للقيم الاجتماعية الإيجابية, واستغلت الثورة المناخ الدولي الذي مكنها من العمل علي الانحياز الإيجابي للفقراء, وكان للفن عامة والسينمائي خاصة دور مهم في هذه التحولات الكبيرة بمصر بعد الثورة فدعا إلي تمجيد العمل والطموح العلمي كأساس للترقي والانتقال من شريحة لأخري أعلي. ومع التحولات العولمية الحديثة وتراجع دور الدولة وعودة طبقة الأثرياء الجدد الذين لاتجمعهم لغة أو تاريخ مشترك أو فكر اقتصادي واحد وله عائد اجتماعي شامل مع هذا التخبط, ظهر الفن الذي يناسبه فأصبحت السينما تصدر العنف وتحمي سعار الاستهلاك وتمجد الثراء السريع ولم تعد تشغل نفسها بالأفكار والأيديولوجيات ولكن بالمتعة والجماليات السريعة والمتغيرة وكذلك الفنون الأخري من غناء وموسيقي ومسرح.. انتقلت الثقافة الاستهلاكية من السلع للفنون وأصبح يغذي كل منهما الآخر, ومع سيادة مناخ العبث واللامعقول بانتشار ثقافة استهلاكية ولاتجد الظروف الاقتصادية المتاحة أي إشباع للمتطلبات المستحدثة والمتجددة, مما ولد بالضرورة شعورا متضخما بالحرمان والعجز والفقر الشديد وبالتالي للعنف بين مكونات المجتمع ككل, فمع غياب ثقافة الرضا وغياب فعلي للاحتياجات الأساسية التي لا غني عنها, لاشك تولد قنبلة شديدة الانفجار تظهر بين وقت وآخر في جرائم لم نسمع عنها أبدا في تاريخنا العربي, الذي لم يكن غنيا وينعم بالوفرة في وقت من الأوقات! فالأفلام القديمة التي مجدت الفقر علي بساطتها في المضمون والشكل الفني إلا أنها كانت تحمل قيمة واضحة وبسيطة ومهمة وأساسية وهي إمكانية الاحتفال بالحياة والاستمتاع بمباهجها المعنوية ومثلها العليا أكبر وأمتع من المقياس المادي, وكيف يمكن للإنسان أن يكون غنيا بالتعفف وهي قدرة تحتاج إلي جهد وجهاد ومثابرة في السيطرة علي النفس الأمارة بالسوء بالفطرة. فهذه الأفلام البسيطة مازلنا نستمتع بها ونرتاح نفسيا بمشاهدتها مثلها مثل بابا نويل ورمزيته الذي يزورنا في احتفال برأس السنة الميلادية أعاده الله علي جميع البشرية بالسلام والحب والعقلانية. بابا نويل شخصية فنية أساسا لا دينية ولكنها وجدت صدي وهوي في نفوس الناس لرمزيته الأخلاقية الحلوه. سانتا كلوز أو بابا نويل بالفرنسية رمز يرتدي رداء البساطة والبهجة والفرح وهي معاني إنسانية يحتاجها الغني والفقير وهي من إبداع الفنان الأمريكي توماس نيست في حملة ترويجية لإحدي السلع إلا أن عباءته اتسعت لمعان أكبر ولكل البشر ويرمز لتمجيد الحياة برغم الفقر والعوز, فاختلط الفني والديني يمجد الفقر ولكن في رداء بابا نويل واحتفالات رأس السنة ومن قبلها عيد الميلاد هي أيضا احتفالات إنسانية لاترجع لطقوس دينية بل تعود لاحتفالات وثنية قديمة للإغريق للاحتفال بالإله ديونوسوس, واندمجت في الاحتفالات الدينية التي مثل غيرها اندمج فيها الغني والشعبي مع الديني لهزيمة الفقر وحب الحياة رغم كل شيء), فالفكرة الأصيلة أن السعادة الحقيقية في فهم الحياه بأداء أدوارنا الصحيحة في الغني أو الفقر. واعتقد أنني علي استعداد أن أكمل عشائي معاني راقية وجمالا فنيا وياحبذا لو كانت أغاني سيدة سيدات العرب أم كلثوم أو موسيقي موتسارت أو حتي فريد الأطرش وإنجل بيرد هامبردنج.. زي بعضه!