دعا علماء الدين إلى إعمال فقه الواقع وفقه الأولويات، للتعاطى مع مستجدات العصر، والتصدى للمشكلات والقضايا المتلاحقة التى تعانيها الأمة، وما نجم عنها من فتن وصراعات سياسية، بدلا من القوالب الثابتة واستدعاء فتاوى وآراء فقهية سابقة قد لا تناسب غير البيئة التى صدرت فيها. وأكد علماء الدين أن ظهور الكثير من الفتاوى الشاذة والمتطرفة مردها إلى غياب فقه الواقع وعدم الإلمام الكامل بمقتضياته ومآلاته، وطالبوا بأهمية إدراك الواقع كركن أساسى من أركان الإفتاء، بحيث لا تقتصر الفتوى على بيان النص الشرعى الحاكم دون النظر إلى الواقع بعوالمه المختلفة. واكد علماء الدين أن عملية الإفتاء تتطلب إدراك المصادر وفهمها بإتقان بما تقضيه أصول اللغة, وإدراك الواقع بعوالمه المختلفة وجهاته المتنوعة. وطالب العلماء ببرامج محددة لتثقيف الدعاة والوعاظ على العمل بهذا الفقه، باعتباره زادا لهم فى أداء رسالتهم الدعوية لمواجهة مشكلات العصر، كما طالبوا بتقرير مادة مستقلة عن» فقه الواقع والأولويات» على الدارسين بالكليات الشرعية. ويقول الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إن الأحكام الشرعية لابد ان تراعى المتغيرات التى تحيط بالمجتمع من خلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والزمان والمكان والواقع وفقا لضوابط الشرع الحنيف، موضحا أن واقع الناس يفرض نفسه على من يجتهد فى الحكم الشرعي، فيراعى احوال هؤلاء الناس، مدللا برواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث سأله رجلان عن القُبلة حال الصيام فأفتى الرسول لأحدهما بالمنع والآخر بالجواز، ويوضح راوى الحديث: «فعجبت لذلك فوجدت الذى قيل له بالجواز شيخا كبيرا، ووجدت الذى قيل له بالمنع شابا». وأوضح ان هذه الواقعة تدل على ان أحوال الناس يكون لها اثر فى الحكم الشرعي، ولكن فى جميع الاحوال تظل الشريعة حاكمة على سلوك الناس وأفعالهم وواقعهم وليست محكومة بذلك، بمعنى أن واقع الناس ينبغى ان يطوع ليتلاءم مع شرع الله، ولا ينبغى أن تطوع الشريعة لتكون معبرة عن الواقع الذى يعيشه الناس، فالواقع فيه الحلال والحرام، والشريعة هى التى تبين ما هو الحلال فيتبع وما هو الحرام فيجتنب. وفى سياق متصل، يوضح الدكتور احمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، أن المطلع على كتاب فقه الواقع لابن القيم «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وذلك على عكس ما نراه حاليا من المتاجرة بالدين لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العليا للبلاد والعباد مما تسبب فى الكثير من إراقة الدماء من جراء بعض الفتاوى الشاذة والغريبة التى لا تمت إلى الدين بأى صلة. وأكد كريمة أهمية إدراك الواقع كركن أساسى من أركان الإفتاء بحيث لا تقتصر الفتوى على بيان النص الشرعى الحاكم دون النظر إلى الواقع بظروفه المختلفة وما يعانيه الناس، وان عملية الإفتاء تتطلب إدراك المصادر وفهمها وإتقانها بما تقتضيه الأمور. وأشار إلى أن الفتوى زمن الخلفاء الراشدين كان يتولاها أناس بعينهم، وهم سيدنا على بن ابى طالب وابن عباس وعبد الله بن عمر، رضى الله عن الجميع، وذلك لخطورتها، وقد انذر الله فى كتابه العزيز قائلا»وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ»، وكان سيدنا عمر بن الخطاب يحيل الفتوى إلى سيدنا علي، وقد ورد ان الإمام مالك أحيل اليه40 فتوى أجاب عن 4 فقط منها، مما يؤكد ان السلف الصالح كانوا يتورعون فى إصدار الأحكام والفتاوى، موضحا ان العلماء الراسخين عرفوا( التوقف) اى الامتناع عن الفتوى اذا تشابهت الأمور بالواقع والنوازل والمتغيرات والظروف. وأوضح أن الواقع يتكون من عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأحداث وعالم الأفكار وعالم النظم، ويتكون أيضًا من العلاقات البينية المتشابكة بين تلك العوالم، ولابد من مراعاة كل ذلك فى إدراك الواقع والتعامل معه، لذا يتوجب على المفتى أثناء فتواه أن يدرس هذه العوالم بمناهجها المختلفة, وعلاقاتها البينية، والمآلات التى يئول إليها العمل بفتواه فى أرض الواقع، مطالبا علماء الأزهر الشريف بأن يتصدوا لمثل هؤلاء المخربين الذين يصدرون فتاوى لحساب أشخاص على حساب الدين والوطن. البحث عن الأولويات الأمر نفسه أكده الدكتور عبد الغفار هلال، الأستاذ بجامعة الأزهر، مشيرا إلى أننا بحاجة أيضا إلى إحياء فقه الأولويات وإبرازه فى حياتنا، لأنه كثيرا ما يغيب عن دعاتنا ووعاظنا، فضلا عن عوام الناس، مع انه من قواعد المنهج الإسلامى فى تعليم الناس أمور دينهم، موضحا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من طبقه ودعا إلى تطبيقه، والدليل على ذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم فى الحديث عن الثلاثة الذين اتوا الى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألون عن أعمال رسول الله، فلما علموا بها كأنهم تقالوها، وقالوا وأين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وقال احدهم أما أنا فأصوم ولا افطر وقال الثانى أقوم الليل ولا أنام وقال الثالث :اعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فلما سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بال اقوام قالوا كذا وكذا، والله انى لاخشاكم لله واتقاكم له، ولكنى أصوم وافطر وأقوم وارقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى»، والحديث معناه واضح فى ترتيب أولويات الفرد فى حياته سواء كانت ناحية العبادات أو العادات، فلا يطغى أى منها على الآخر. مادة مستقلة وأشار إلى إننا نحتاج إلى تفعيل فقه الأولويات والواقع تدريجيا، على أن يبدأ ذلك مع طلبة الكليات الشرعية التى يتخرج فيها الأئمة والدعاة والوعاظ، من خلال تدريس مادة مستقلة أساسية عن فقه الأولويات وليست بابا فقط من أبواب الفقه كما يحدث حاليا، وذلك ليس فى كليات الأزهر فحسب، بل لابد ان تكون فى جميع الكليات التى تدرس العلوم الشرعية فى الجامعات الأخرى. وطالب هلال الأزهر والأوقاف، بعقد دورات تدريبية مكثفة للائمة الذين يمارسون مهام الدعوة والوعظ، لتأهيلهم على كيفية إعمال فقه الواقع والأولويات وتطبيق ذلك فى أثناء خطبهم على المنابر والدروس والندوات الدينية فى المساجد والنوادى والمناسبات الاجتماعية. وشدد على ضرورة ان ينشغل الدعاة والأئمة والوعاظ بالقضايا التى تهم الناس فى دينهم وأحوالهم الأسرية، والتركيز على الموضوعات التى تؤدى إلى رأب الصدع وتوحيد الصف وليس الى التفرقة، مع الابتعاد عن الأمور السياسية بمفهومها الحزبى الضيق التى تؤدى إلى التنافر والتناحر بين الناس، كل هذا لن يتأتى إلا إذا كان الداعية أو الإمام لديه قدر كاف من كيفية إعمال فقه الواقع والأولويات حتى يمكنه من التعامل مع قضايا الجمهور.