إن القضاء على كتاب جيد يعادل قتل إنسان تقريباً، بل هو أسوأ أيضاً على نحو ما، لأن مَن يقتل رجلاً، يقتل كائناً مفكراً صوره الله، لكن مَن يقضى على كتاب جيد، يقتل الفكر ذاته، ويقضي- أكاد أن أجزم- على جوهر تلك الصورة الإلهية. هكذا عبر الشاعر الإنجليزى جون ميلتون عن رؤيته تجاه مصادرة الأعمال الفكرية، والإبداعية، هذه الرؤية التى أحدثت اتفاقاً بشأنها بين عموم المفكرين، والمثقفين فى العالم، غير أن هذه المقولة التى باتت من قبيل المسلمات، أضحت فى مهب الريح لدينا إزاء حالة الانتكاسة التى تشهدها حرية التعبير بين الحين والآخر. من هنا تبدو الأزمة المثارة بشأن الفيلم الأمريكينوح وعرضه داخل قاعات السينما فى مصر استعادة لأجواء كارثية من القمع الجاهز لحرية الرأى والتعبير، خاصة وأن سياقا عاما بدا ملغوما طيلة الوقت بانفجارات شبيهة وعلى مسارات أخرى مختلفة، من قبيل حبس القاص كرم صابر بتهمة ازدراء الأديان، ومنع المطرب الموهوب محمد محسن من الغناء فى احتفالية عيد الفن، ففى اللحظة التى تتطلع فيها الأمة المصرية صوب عالم أكثر حرية وجمالا وإنسانية، تبدو التصورات القديمة الماضوية حاكمة لحركة الحياة لدينا، فتقحم المؤسسات الدينية نفسها على طريقة نحن هنا وتعلن رفضها لعرض فيلم نوح الذى لم ننتجه، وتتعامل معه من منظور أحادى مغلق، فى حين أن العمل الإبداعى ابن قيم التنوع والاختلاف، ومن ثم فالكلمة الأخيرة بإزائه كلمة لم ينطق بها أحد بعد، فهى بنت جمهرة المتلقين على اختلاف تكويناتهم وتنويعاتهم. من عجب وعبث أن يتبرع أحد الشيوخ مهددا بإحراق دور العرض السينمائية التى سيعرض فيها الفيلم، بما يخلق مناخا من التوتر المعبر عن رغبة عارمة لدى ممثلى السلطة الدينية فى التكريس لواقع رجعى بامتياز تصادر فيه الأعمال الإبداعية وتخنق حرية التعبير، وبما يعيد للأذهان وعلى الفور أزمة مصادرة رواية الكاتب السورى حيدر حيدر وليمة لأعشاب البحر، والتى أشعلها أحد المتثاقفين من التيار المتأسلم وخرجت المظاهرات فى جامعة الأزهر آنذاك لطلبة لم يقرأوا الرواية أصلا لتزيد المشهد الظلامى برمته تعقيدا والتباسا. وكلنا يتذكر محاولة مصادرة مصادرة «ألف ليلة وليلة» أحد أبرز جذور السرد فى العالم والمؤلف صاحب القيمة الإنسانية والفنية الكبيرة، هذه المصادرة الفجة التى حدثت أيضا مع الشاعر الراحل حلمى سالم وقصيدته شرفة ليلى مراد، والتى تعرضت لقراءات متعسفة تحمل الصبغة الدينية من قبل شيوخ تارة، وأنصاف مثقفين تارة أخرى، وأشباه نقاد تارة ثالثة، خلطوا بين المعتقد الدينى وجماليات الكتابة، ونسوا أن الأدب ابن خيال جديد، ولا يحاكم وفق معايير أخلاقية أو دينية، وإنما عبر معايير جمالية مستمدة من الفن ذاته، ومن نظريات النقد الأدبى وتراكمها المعرفى الرصين عبر فلاسفة ومفكرين ونقاد ثقات. إن محاولة فرض الوصاية الدينية على الأعمال الإبداعية بتنويعاتها المختلفة يهدر قيمة الدستور بالمعنى السياسي، خاصة وأنه ينص على حرية الرأى والتعبير، وتهدر قيمة التنوع فى الإبداع بالمعنى الأدبي، وبما يعنى أن صيغة التحالف المشبوه بين الرجعية والفساد لم تزل مهيمنة على المشهد الراهن على الرغم من قيام ثورتين مجيدتين. لقد وقفت المؤسسة الدينية من قبل موقفا متزمتا تجاه عرض أعمال فنية مثل، الرسالة، وآلام المسيح والفاروق عمر، ويوسف الصديق، وعرضت الأعمال فى نهاية المطاف ونالت نجاحا تستحقه. الذهنية التى حالت دون غناء محمد محسن فى الأوبرا، هى نفسها التى صادرت حق كاتب قصة فى أن يعبر بفنه عن رؤيته للعالم، وهى نفسها التى تصنع صخبا فارغا حول عرض فيلم سينمائى لدينا، وهى الذهنية المتحالفة مع التيارات الظلامية عبر التكريس لواقع من المصادرة يحوى إقصاء عمديا لقيمة العقل، وتغييبا أشد قسوة لمنحى الاستنارة، ولذا فنحن مطالبون الآن، بأن نبصر ما تحت قدمينا جيداً، انتصارا لثقافة التقدم، فى مواجهة رياح الرجعية العاتية، والتى تهدد ما هو راسخ من حيوات الثقافة، والإبداع، هذه الحيوات التى لا تعترف بالوصفات الجاهزة، ولا تعتد بالرؤى المعدة سلفا، تلك الحيوات التى نتمناها فى أى ثقافة رفيعة لأمة تنظر إلى الأمام، والتى دشنتها أجيال من المبدعين والمفكرين على اختلافهم وتنوعهم الخلاق، إنها الحيوات الحاملة لنا، باحتمائنا بالإنسان وانتصارنا له. هنا وعبر هذا الفهم، نكتشف جوهر المثقف التنويرى الحقيقي، الذى غاب للأسف، أو حورب، أو قمعه المناخ. أما السؤال عن دور المؤسسة الثقافية تجاه حماية حرية الرأى والتعبير فقد أصبح عبثيا بامتياز، حيث أكلها الصدأ أو يكاد، بل ويعيش بعض الظلاميين فى جوانبها، وقد استراحت للأسف الشديد إلى تحالف الفساد والظلمة!، ومن ثم أضع جمهرة المثقفين أمام مسئولياتهم تجاه مقاومة تيار رجعي، عابث بنا، ومستبد، يحاول التهامنا جميعا لو صمتنا، عاجز عن رفع رأسه إلينا لو قاومنا، حتى يمكننا النجاة من طوفان المصادرة، أملا فى سفينة نوح التى يجب أن تقلنا صوب عالم حر، ونبيل، وتقدمي، تحترم فيه حرية الرأى والتعبير، وتصان، فلا تهدر أو تقتل على مذبح الرجعية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله