رأس الكسلان بيت الشيطان»..»خذوا الحكمة من أفواه المجانين»..»خدوا فالكم من عيالكم..» أمثال شعبية مصرية رغم ما يبدو فيها من تضارب. إلا أن المصرى الفصيح لخص فيها بعبقريته الفطرية وبموروث طويل من حكمة الأجداد فضيلة التفكير وحتمية عدم تزييف الوعي، سواء بالبحث عن منفذ الوعى الفطرى التلقائى والحدس المتجرد من الأهواء الذى تجسده الطفولة، أوحالة الانفصال عن الواقع التى يعيشها المجنون. فالحالتان تمثلان قدرا من شفافية مُبسطة بعيدة عن ضبابية الأفكار أو إدراك منقوص، إما لعدم وضوح المفاهيم أو اختزالها أو الميل مع الهوى لتحقيق مكاسب ما أو مصلحة شخصية.. ولأن الوعى يعادل حالة الإدراك والقدرة على التواصل مع المحيط الخارجى سواء على مستوى الأسرة أو الوطن أو العالم من حولنا، ولأن كثيرا من الفلاسفة ممن تناولوا مسألة الوعى وإن اختلف منظورهم ومداخلهم (بدءا من ابن رشد مرورا بديكارت وهجيل وبرجسون وهوسرل وماركس وراسل وسارتر.. إلخ) اعتبروها قضية حتمية، سواء من حيث جدلية الذات والعالم والتعرف على الآخر والأشياء فى ديمومتها، أو من حيث العلاقة بين وعى البشر وواقعهم ومدى إسهام الوعى السليم فى الانفتاح على الماضى والحاضر والمستقبل وتغيير الواقع الآني.. ولأن الإعلام الذى يعد معاملا رئيسيا فى تشكيل الوعى وتوجيه الرأى العام تعرض لانتقادات كثيرة خلال السنوات الماضية، بدءا من اتهامه بمحاولة بث التنافر فى كيان المجتمع وإثارة النعرات وخلط الأوراق من قبيل الإثارة الإعلامية، وصولا لقضايا حرية الرأى والخصوصية التى فجرها الباحث الدءوب عبد الرحيم على بصندوقه الأسود.. ولأن الجدل الذى تثيره الممارسات والمفاهيم الإعلامية بات يهدد وعى المصرى أفندى الحائر بين واقع حقيقى يعايشه وآخر تصدره مفاهيم ملتبسة يتم الترويج لها سواء بالاتصال المباشر أو عبر صور إعلامية منقوصة تفتقد أحيانا معايير المهنية.. لكل ما سبق أظن مثلما يظن غيرى أن الإعلام ومجلسه الوطنى يتصدر قائمة أولوياتنا فى هذه اللحظة.. وفى دراسته القيمة «أنماط ملكية وسائل الإعلام وعلاقتها بالممارسة المهنية» يشير الخبير الإعلامى د. عدلى رضا إلى أن تطور تكنولوجيا الاتصال والمعلومات واتساع مفهوم حرية التعبير واكبه ظهور أنماط جديدة من الانتهاكات المهنية و الأخلاقية، وإشكاليات جديدة تتعلق بجرائم الإنترنت والمعلوماتية والإعلام البديل. ويرصد د. رضا واقع الإعلام المصرى موضحا معاناته التسييس أو تسخيره لخدمة الأغراض الحزبية، مشيرا إلى أن الممارسة الإعلامية فى السنوات الأخيرة فى غياب تفعيل التشريعات والضوابط ومواثيق الشرف الإعلامية أصبحت تسودها الفوضى والارتباك والبعد فى حالات كثيرة عن قواعد الممارسة المهنية، من قبيل التركيز على الموضوعات السلبية والإثارة لجذب المعلنين وتضخيم الوظيفة الترفيهية مقابل تراجع الاهتمام بالجوانب الفكرية والعلمية. وتشير الدراسة إلى عدد من المتغيرات التى لحقت بالإعلام و انعكست على أدائه، موضحة الضغوط الداخلية، والاتجاه العالمى المتنامى نحو تحرير وسائل الإعلام من قبضة السلطة المركزية والتحول نحو ما يسمى بالاتجاه التجاري، مما أدى لغياب استراتيجية تحقق التفاعل مع القضايا القومية أو تنقل نبض الشارع.. وعبر استعراض أدبيات المهنية والدراسات التى تناولت الأداء الإعلامى فى السنوات الماضية يخلُص د. عدلى لعدد من المحدادت لمفهوم المهنية منها الدقة.- الموضوعية.- الالتزام بمواثيق الشرف و بآداب الحوار - عرض وجهات النظر المختلفة - مراعاة الصالح العام للمجتمع - عدم إثارة الرأى العام على حساب الموضوعية - مشاركة كافة قطاعات المجتمع فى مناقشة القضايا العامة. وتنتهى الدراسة إلى أن نمط ملكية وسائل الإعلام يؤثر فى المضمون الإعلامى من حيث شكله ونوعيته وفى علاقة الوسيلة الإعلامية مع السلطة، وأن أجواء المنافسة غير المهنية أفرزت ظواهر منها دخول أشخاص غير مؤهلين للعمل الإعلامى سواء من حيث افتقارهم لدراسة التخصص أو نقص التدريب مما أدى لهبوط مستوى ولغة الخطاب الإعلامي. كما ترصد الدراسة تدخل المعلن وأصحاب المصالح لفرض مقدمى برامج أو عدد محدود من الشخصيات المكررة وتغييب آراء ومشاركة قطاع عريض من الشعب المصرى فى القضايا العامة. عند هذا الحد مما رصده د. عدلى رضا وأكدته عدد من الدراسات حول أهمية الإعلام فى تشكيل الوعى أو تغييبه، وما تلحظه العين المجردة من تجاهل البعض لألف باء مواثيق ومسئوليات العمل الإعلامي، أظن أن الدور المنوط باللجنة الوطنية للإعلام أكبر من تحديد أشكال ملكية وسائل الإعلام أو اختيار قادتها..فالأهم و الأخطر هو فك اشتباك المفاهيم وتوضيح المعايير ووضع استراتيجيات مستقبلية تتجاوز إشكاليات التحول الإعلامى وتوظف آليات مفهوم التربية الإعلامية الذى طرحته اليونسكو قبل سنوات، مما يتيح للمواطن العادى تقييم المادة الإعلامية ومقاومة نسق قيم وأفكار تؤدى للاغتراب عن الواقع.. وضع خطة عمل وضوابط إعلامية، لمواجهة محاولات اغتصاب وعى المصرى أفندى وموروث أصيل يستدعيه فى الشدائد، تؤكد دورا للإعلام لخصه الإذاعى الكبير إيهاب الأزهرى بقوله «فى كل بلد كان هناك حراس للوطن ينتفضون للدفاع عنه عند أى خطر يهدده، حتى انتهى عهد السيوف فامتشقوا الأقلام..».