يعتبر عام 2014 مفصلياً فى تاريخ الثورة المصرية حيث ستشكل السياسات الاقتصادية لنهج التنمية فى الفترة المقبلة - بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية - العامل الحاسم فى تحقيق أهداف الثورة والاستقرار المنشود ، وتتعدد فى هذا الصدد الدروس المستفادة من النماذج التنموية التى شاهدها العالم ، فعلى سبيل المثال حقق النموذج الالمانى لاقتصاد السوق الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية- الذى نشأ على أنقاض نظام سياسى شمولى واقتصاد أوامر- نجاحاً باهراً ، فلقد رفض «ايرهارد» وزير الاقتصاد حينئذ نصائح الحلفاء المحتلين لالمانيا الغربية باتباع سياسات تحررية ، وعلى النقيض شيّد النموذج على أساس التوازن والتوافق بين قوى المجتمع وأرسى نمطاً للمشاركة بين العاملين وأصحاب العمل يعتبر فريداً فى الديمقراطيات الغربية؛ وجاء النمو الاقتصادى فى اليابان بعد الحرب مدفوعاً بتدخل حكومى فى المجالات الحيوية للاقتصاد وبقيود لدرء التدخل الاجنبى فى السوق الداخلية، وعلى نفس الوتيرة وبدرجات مختلفة سارت النمور الاسيوية؛ واعتمد النموذج الصينى ايضاً على التدخل الاستراتيجى للحكومة التى أعطت الأولوية للاصلاح الاقتصادى على أى إصلاحات سياسية ؛ ولقد تعثر النموذج السويدى اقتصادياً وسياسياً فى عام 1991 ولم يتمكن من الاستمرار فى تقديم خدمات الرفاهة الاجتماعية التى اشتهر بها نظراً لتكلفتها الباهظة على موازنة الدولة فى بلد هى من أغنى دول العالم ؛ وأمّا نموذج «العلاج بالصدمة» الذى اٌتبع فى بولندا ومبادئ «توافق واشنطن» للاصلاح الاقتصادى التى تبّناها البنك الدولى وصندوق النقد والتى طبقت فى روسيا ودول شرق اوروبا بعد انهيار النظام الشيوعى فلقد جاءت نتائجها كارثية كما هو معلوم- على الاقتصاد والمجتمع معاً! وجميع هذه النماذج بمعطياتها المختلفة يصعب تكرارها فى مصر فى ظل ظروف داخلية وخارجية محيطة مختلفة وكما ان الاعتقاد بوجود نموذج أمثل هو فى حد ذاته خاطئ لكونه يتجاهل الخصائص الفريدة لكل حالة، علاوة على عدم توافر شكل نمطى واحد لمؤسسات وآليات السوق ولعل النماذج التنموية لدول الشرق الاسيوى التى تفوّقت على النماذج الغربية لخير دليل، إلاّ ان هناك استنتاجا مهما من التجارب التنموية المختلفة حول العالم وهو أن آليات ومؤسسات السوق غير المقّيدة تقّوض بصفة عامة الاستقرار الاجتماعى والسياسى، لأنها تفرض على الناس مستويات عالية من عدم الأمان بالاضافة الى ان السياسات النيوليبرالية تؤدى الى انتشار عوامل المخاطر عند الطبقات الوسطى والتى كانت فى فترات تاريخية سابقة من نصيب حياة محدودى الدخل فقط، ولم تنج الدول المتقدمة صناعياً من هذه الظاهرة نتيجة المستويات العالية من البطالة الممتدة خاصة بين الشباب؛ ولا شك أن آليات السوق ذات فائدة ولكنها ليست عقيدة سماوية وبالتالى تختلف النماذج التنموية عن بعضها فى مدى اتساع وعمق الحريات المسموح بها فى السوق، فحرية المستهلك على الاختيار على سبيل المثال - والتى تتغنى بها الشركات متعددة الجنسيات- هى مهمة ولكن لا يمكن ان تشكل أساساً لأجندة السياسة العامة ، فالخطر الحقيقى فى فكر اليمين الاقتصادى يكمن فى عدم إدراكه أن آليات السوق ومؤسساته لاتكون مستقرة إلا اذا ادمجت فى خصائص تاريخ وثقافة وظروف الذين تخدمهم. وعلى هذا الاساس وعند تصميم النموذج التنموى لمصر الثورة يلزم مراعاة المبادئ التالية: (1) آليات السوق ليست أشكالاً تتولد تلقائياً بل تؤسس بواسطة التدخل السياسى (2) تكتسب آليات السوق شرعيتها من خلال خدمتها للصالح العام لا لفئة بعينها، (3) تستكمل آليات السوق بمؤسسات أخرى للرفاهة الاجتماعية وبسياسات للاقتصاد الكلى فى مجال التشغيل والاسعار ، (4) القبول الشعبى للنموذج التنموى يتحقق نتيجة مراعاة التقاليد الثقافية والاجتماعية المحلية ؛ ومرة اخرى ليس المقصود من ذلك الاقلال من شأن آليات السوق فى الحياة الاقتصادية ولكن القصد أن تُوجه وتُسخر هذه الآليات فى إطار من ضوابط السياسة العامة بهدف خدمة احتياجات الانسان المصرى ؛ وكما أنه لايجب عند بناء الداخل نسيان الخارج وتأثيره على مسار التنمية فى مصر بل ان نجاح التنمية فى الداخل مرهون بقدرة التحرك على الساحة الاقتصادية الدولية حيث يضع الخلل فى النظام التجارى الدولى ضغوطاً شديدة على الفئات العاملة فى البلاد النامية والمتقدمة على السواء، بالاضافة الى أن آليات السوق الحرة على مستوى العالم تؤدى الى تآكل الهوية الثقافية للشعوب لصالح ثقافة الاستهلاك والى اشتعال الصراع الطبقى فى دول العالم ، فاتفاقيات التجارة العالمية التى وضعت لصالح الشركات الدولية الكبرى والرأسمالية الكوكبية هى روشتة للنزاع الاجتماعى وعدم الاستقرار السياسى على نطاق عالمى ، وعلى مصر ان تعمل مع شركائها فى الدول النامية خاصة الهند والبرازيل لوضع شروط عادلة للتجارة الدولية. لمزيد من مقالات شريف دلاور