ودعت مصر في يوم الجمعة12 مارس2010 شيخ الفلاسفة وصاحب مدرسة التفكير العلمي المستنير الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا الذي طالما ارتبط اسمه بقضية الحقيقة. تلك القضية التي نال عنها درجة الدكتوراة في الفلسفة عام1956 تعمق راحلنا الفاضل في ما هو وراء الفكر السائد أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة, فتوصل سيادته إلي أن الحقيقة المطلقة تقود بصاحبها إلي التعصب البغيض, بينما الحقيقة النسبية تقود إلي التسامح المطلوب. وعلي هذا الأساس الفلسفي كما يقول الراحل الأستاذ الدكتور محمود رجب أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة ينبني نقد د. فؤاد زكريا للتعصب, الذي هو في صميمه, وفي الوقت نفسه دعوة إلي التسامح, وهذا يحتم القبول بالآخر والاعتراف باختلاف اللون والجنس والدين والعقيدة. فمنذ فترة السبعينيات تغلب ضجيج الحديث عن الانفتاح الاقتصادي علي الانفتاح العقلي, أي تغلب منطق المال علي اتساع الأفق الذي يستوعب الآخر ويحترمه ويقدره بمقدار ما يتبني من فكر, عوضا عن مقدار ما يملكه من مال. من هنا كما رأي راحلنا الفاضل أنه لم يكن انفتاحا اقتصاديا بقدر ما كان انفتاحا علي الانغلاق, وفي هذا كان يمكن تشجيع أصحاب الحقيقة المطلقة, فتحررت قوي التعصب, وظهرت مشكلة وهمية تقوم أساسا علي كراهية الغير والاعتزاز بالأنا. تميز أسلوب د. فؤاد زكريا في تناوله للقضايا المصيرية التي تعرض لها بالوضوح الشديد, فلم يوجد غموض في أسلوبه, كان دائما يجعل عقل القارئ يتفاعل بإيجابية مع ما يقرأه من أفكار مستنيرة. هذا الوضوح في الأسلوب منبثق من وضوح نظرته العقلية للمشكلة التي يتناولها, لم يلجأ إلي أسلوب استخدام الأمثلة التوضيحية, لأنه لم يفترض أن القارئ طالب قاصر أو طفل صغير غير قادر علي الإلمام بما يعنيه من أفكار, بل بالعكس تماما كان يحفز القارئ كما في كتابه عن التفكير العلمي مثلا علي التفاعل النشيط مع أفكار الكاتب, ومن هنا يأتي التفاعل الإيجابي الذي يولد بداخل الشخص الثورة الإصلاحية الداخلية من ناحية التغير في الاسلوب والعادات والسلوكيات والأفكار. كان راحلنا الفاضل د. فؤاد زكريا يؤمن تماما بحقه في التفكير العقلي المستقل مستندا علي المنهج الديكارتي الذي يقول: لا أقبل شيئا علي أنه حق ما لم يتبين لعقلي أنه كذلك. فكان يري أن العقل الذي لا ينقض عقل عاطل وفي الواقع أن هذا المنطق هو أساس البحث العلمي الجاد. رحم الله الفيلسوف الحر والمتحرر د. فؤاد زكريا, الذي تحرر من سجن الجسد وانطلق إلي موضع الحرية الحقيقية.