في عام1971 سجل البروفسور آرثر شورArthurShore(19941924) أحد علماء اللغة الديموطيقية والمخطوطات القبطية وأستاذ كرسي المصريات بجامعة ليفربول البريطانية, مقالا رائعا في كتاب بعنوان:( تراث مصر المسيحية والقبطية:ThelegacyofChristianandCopticEgypt) والذي تناول فيه قصة التطور الأول للكنيسة المسيحية والذي فيه لعب تراث مصر دورا هاما ومؤثرا في العالم المتحضر علي يد مواطني مصر المسحيين الذين عرفهم الأوربيون منذ القرن السادس الميلادي باسم القبطCopts. وفي العصر الروماني عرفت مصر بأنها' سلة غلال' الأمبراطورية, حيث كانت تشحن المحاصيل الوفيرة لأرض مصر الخصبة من الإسكندرية رأسا إلي روما. وكان أقباط مصر يمثلون صداعا مزمنا لأباطرة روما نظرا لتمسكهم القوي بعقيدتهم ورفضهم القاطع فرض الوثنية الرومانية عليهم. وقد دخلت المسيحية إلي مصر علي يد القديس مرقس الرسول عندما وفد إلي الإسكندرية للتبشير بالمسيحية, وهو أول من أسس الكنائس بالإسكندرية, ويأتي اسمه في بداية قائمة بطاركة الكنيسة القبطية, وعندما قارب القرن الثاني من نهايته كانت المسيحية قد تغلغلت في القطر المصري كله. وكان لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية العديد من العلماء الأكفاء الذين تعاقبوا علي رئاستها مثل بانتينوس وكليمنضس وأوريجانوس. ويتضح مدي تعمق الثقافة السكندرية في كتابات كليمنضس فيؤكد أن' التقدم في الحياة المسيحية لا يتأتي إلا عن طريق الفهم العميق للإيمان المسيحي'. ولم يتبقي من التراث القبطي إلا القليل الذي تحدي عوامل الزمن. فنجد مثلا إلي الغرب من الإسكندرية وعلي بعد60 كيلومترا في قلب منطقة مريوط التي كانت خصبة يوما ما بقايا كاتدرائية الأمبراطور أركاديوس(408395 م), المقامة فوق قبر القديس مينا والجبانات التي تعود إلي عصر البطالمة. ومن هذا المكان خرجت القوارير الفخارية التي تحمل رسم القديس مينا والجملين إلي جميع أنحاء العالم. ومما يشير إلي تغلغل المسيحية جنوبا في مصر العليا ظهور بعض النصوص المسيحية في مدن أوكسيرنكوس( البهنسا) وأنتينوبوليس( الشيخ عباده). وبعد قرار الإمبراطور ثيؤدوسيوس عام392 م بحظر جميع مظاهر الوثنية تحول الغالبية العظمي من المصريين إلي المسيحية. وقد كان إنتشار المسيحية خارج المدن بطيئا في البداية نظرا لإستخدام اليونانية في عملية التبشير, مما دعا أولي الأمر إلي تعديل الحروف الأبجدية وإضافة بعض الحروف الديموطيقية لإمكان كتابة الكتب المقدسة باللغة المحلية( الوطنية). ومنذ ذلك الحين تميزت الكنيسة القبطية بلغتها القبطية. ويعود الفضل في التحول إلي اللغة المحلية إلي البطريرك' ديونيسيوس'(264247 م) فبدأ الإنتشار السريع للمسيحية في بقية الأقاليم. كما تم أيضا تأريخ التقويم القبطي بحيث يبدأ بيوم ارتقاء' دقلديانوس' العرش أي عام284 م, وتمجيدا لذكري الشهداء الذي أستشهدوا نتيجة الأضطهاد الكبير الذي وقع علي مصر في عهده. ويتجلي تحول المصريين إلي المسيحية بوضوح في نشأة الرهبنة الأولي في كل العالم, والتي تمثل الإضافة العظيمة التي وهبتها الكنيسة القبطية للمسيحية. وقد اتخذت الرهبنة في مصر أنماطا مختلفة, فالتوحد يعتبر الصورة المثلي للرهبنة زاولتها القلة بغرض الحياة في توبة وسعيا وراء التفرغ للصلاة بعيدا عن مباهج الحياة. ويعد القديس الأنبا بولا الملقب بأول السواح من الأوائل في هذا المضمار, وعاش متغربا عن العالم كله. ويعتبر القديس الأنبا أنطونيوس مؤسس نظام الرهبنة المصرية. وقد سعي الأنبا أنطونيوس إلي تنظيم حركة الرهبنة, فلم يضع قيودا صماء, بل ترك لكل راهب حرية اختيار أسلوبه الخاص وتحديد منهجه الخاص للصلاة في قلايته, وكانت القلالي تقع علي مسافات متباعدة نوعا. وبزيادة عدد الرهبان تكونت العديد من التجمعات الرهبانية بمنطقة وادي النطرون نذكر منها منطقة الأسقيط ونتريا وكيليا. ونتيجة لغارات البربر في القرن الخامس الميلادي اضطرت هذه التجمعات إلي إقامة أسوار حولها, واستلزم هذا النوع من الرهبنة إلي وضع قواعد تحكمها, ويعود الفضل في ذلك إلي القديس الأنبا باخوم الملقب بأب الشركة الرهبانية. وقد انتقل نظام الرهبنة هذا إلي الأمم الأخري إما بطريق مباشر أو غير مباشر. فنجد القديس باسيليوس الكبير قد أسسه في آسيا الصغري بعد زيارته لمصر عام357 م وتبعته في ذلك الكنائس الشرقية. كما إنتقل نظام القديس باخوم إلي الغرب اللاتيني عن طريق القديس جيروم. كما أن شهرة رهبان البرية المصرية جذبت الكثيرين من الزوار الغربيين لزيارة الأديرة المصرية والإستماع لحكم ومأثورات آباء البرية المصرية, بل أن الكثير من أبناء الملوك مثل القديسين مكسيموس ودوماديوس تركوا عيشة الملوك وترهبوا بالبرية المصرية. في القرن السابع عشر إزداد إهتمام المستشرقين باللغة القبطية في الوقت الذي بدأت فيه اللغة تنكمش في مصر بين الأقباط نذكر منهم: فانسليب, جاستون ماسبيرو, أثناسيوس كيرشر, هنري تاتام, وغيرهم. ومن أهم أفضال اللغة القبطية مساهمتها الفعالة في فك طلاسم اللغة الهيروغليفية بعد إكتشاف حجر رشيد في ربيع عام1799 م, إذ كان الشاب الفرنسي شامبليون قد تعلم أساسيات اللغة من قسيس قبطي يدعي يوحنا الشفتشي من طنطا وكان اللقاء بين القسيس وشامبليون بكنيسة تقع بجوار متحف اللوفر بباريس. إن القدرة الطبيعية لمصر في الحفاظ علي مادتها القبطية ستظل دائما منهلا غنيا مثمرا عبر التاريخ. فالفحص المتأني للآثار القبطية المنتشرة في ربوع مصر يعطينا فكرة دقيقة عن تاريخا وأصالتها كلما تقدمت الحفائر في المواقع القبطية. لمزيد من مقالات د. مينا بديع عبد الملك