لا يملك الفيلسوف سلاحا سوي الحوار العقلي ومقارعة الحجة بالحجة حتي ولو كان الموضوع من موضوعات الحياة اليومية, وسوف أسوق مثالين, الأول من الشرق( التراث الإسلامي) والثاني من الغرب( أمانويل كانط).. الأول هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي الملقب بفيلسوف العرب وكان أبوه أميرا علي الكوفة, ويبدو أنه كان فاحش الثراء رغم أن الفيلسوف كان بخيلا, وقدروي الجاحظ في كتابه البخلاء نوادر كثيرة عن بخل الكندي الفيلسوف. مر عليه أشعب الطفيلي الشهير في الأدب العربي القديم فوجده يجلس في بستانه تحت شجرة علي ماء جار, ووسط خضرة وقد بسط بين يديه منديلا فيه لحم بارد, وقطع جبنا, وزيتونات, وصرة فيها ملح, وأخري فيها أربع بيضات. فأقترب منه مسلما فرد الكندي السلام قائلا: هلم عافاك الله..! فإذا بأشعب أسرع من لمح البرق يتراجع ليقفز من فوق القناة الصغيرة التي تفصل بينهما; فصاح الكندي وهو يأكل: مكانك, فإن العجلة من أعمال الشيطان!... فوقف أشعب مأخوذا.. فسأله الكندي: ماذا تريد؟! أريد أن أتغذي! فحملق فيه الكندي وهو يقول: ولم ذلك وكيف طمعت في هذا؟! ومن أباح لك مالي؟! فقال أشعب أولست قد دعوتني..؟! فأجاب الكندي: ويلك! لو ظننت أنك هكذا أحمق ما رددت عليك السلام..! ماذا كان بيننا غير سلام ورد سلام, أو كلام بكلام, ولكنك تريد أن يكون كلاما بفعال; وقولا بأكل, وهذا ليس من الإنصاف! وإزدرد الرجل بيضة وجعل أشعب ينظر إليه ثم قال: لقد رأيتك تأكل وحدك!. فبلع الكندي ريقه ثم قال: ز! في الأصل! وإذا كانت الوحدة خير من جليس السوء, فإن جليس السوء خير من أكيل السوء!. فقال أشعب متخابثا: لقد أردت أن أشاركك الطعام لكي يقال عنك إنك سخي, وأنفي عنك إسم البخيل!. فأجاب الكندي وهو يلقي في حلقه بزيتونة: ز! إنه بخيل إلا وهو ذو مال, فسلم إلي المال. وأدعني بأي اسم شئت!: فقال أشعب وقد أرهقه الحوار مع الرجل:- ولا يقال أيضا عن فلان أنه سخي إلا وهو ذو مال! فقد جمع هذا الاسم الحمد والمال, أما اسم البخيل فقد جمع المال والذم فأنت قد أخترت أخسهما!!. فقال الكندي بينهما فرق, ففي قولهم فلان بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه, فالبخيل اسم فيه ذم, ولكن فيه حفظا, والسخاء اسم فيه حمد, ولكن فيه تضييعا, والمال حقيقة ومنفعة وحيازة قوة, أما الحمد فهو ريح وسخرية, والاستماع له ضعف! وماذا ينفع الحمد إذا جاع البطن, وعري الجلد, وضاع العيال, وشمت الحساد؟!!. ومن الطريف أن أديبنا الراحل- توفيق الحكيم. قد حرص علي أن يعقد فصلا في كتابه: أشعب: أمير الطفيلين ليروي قصته مع الكندي بالتفصيل, وكأنه يجد متعة خاصة في حوار الكندي البخيل وبراعته مع أشعب!! أما المثال الثاني فهو للفيلسوف الألماني كانطKant(18041724) أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر الذي أخرج مذهبا أفزع أوربا وهزها هزا قويا.. هذا الفيلسوف صاحب العقلية الجبارة في الفلسفة كان ضعيف البنية قزما بين الرجال, وكان من بين عاداته المفضلة لوقاية نفسه من البرد ألا يتنفس إلا من أنفه. وخصوصا إذا كان خارج منزله, وكذلك لا يسمح لأحد أن يكلمه في نزهته اليومية في فصل الشتاء- إذ سيضطره الكلام إلي التنفس من فمه وكان يقول الصمت خير من المرض بالبرد..!. وكان يفكر في كل شيء تفكيرا طويلا. في يوم مشمس من أيام الآحاد كان كانط يتنزه في حديقة مدينة كوننجسبرج عندما استوقفه نفر من معارفه وأصدقائه, فتحوا معه موضوع الحرب التي كانت دائرة في ذلك الوقت بين بريطانيا العظمي والثوار الأمريكيين التي سميت باسم حرب الأستقلال, وإنتهت بالفعل باستقلال الولاياتالمتحدة( ثلاث عشرة ولاية في البداية ثم تبعتها الولايات الأخري) عام1783 ذ فحمل علي بريطانيا العظمي حملة شعواء, بل راح يؤيد كل أمة من أمم الشرق أو الغرب تسعي إلي الاستقلال- فهذا حقها الطبيعي وينحو باللائمة علي دول الاستعمار وعلي رأسها جميعا بريطانيا العظمي التي استعمرت بدون وجه حق كثيرا من الشعوب في أنحاء متفرقة من الكرة الأرضية ولجأت إلي القتال العنيف مع كل دولة تريد أن تتحرر من ربقة التاج البريطاني. ولم ينتبه الفيلسوف وهو ينطلق في هذه الحملة العنيفة ضد الإستعمار البريطاني إلا علي صوت رجل عملاق عريض المنكبين- مفتول العضلات ينحني أمامه في أدب جم وهو يقول:- إنني يا سيدي أدعوك إلي المبارزة, وأترك لك تحديد الزمان والمكان والشهود ونوع السلاح!! وسأله الفيلسوف مندهشا:- ولم يا صاح!! وماذا فعلت! فأجابه الرجل بهدوء بارد:- لأنني يا سيدي رجل إنجليزي يحب بلده, وأنت منذ ما يقرب من الساعة تهين بلادي وتشن عليها حملة بالغة العنف علي مسمع من هؤلاء القوم..! وهم شهود عدول علي ما أقول..! وأسقط في يد كانط ماذا يفعل..؟! صحيح أنه كان ماردا فكريا جبارا في عالم الفكر يحمل في رأسه ثورة من الأفكار سيطلق عليها فيما بعد اسم الثورة الكوبرنيقية في الفلسفة, لأنها قلبت موازين المعرفة علي نحوما فعل كوبرنيكس(1473 ذ1543)N.Copenicus نظام الفلك القديم, لكنه مع ذلك كله كان ضعيف البنية, قزما بين الرجال كما سبق أن ذكرنا. إذ لم تكن قامته تزيد عليخمسة أقدام... ضئيلا نحيلا قلما تقوي قدماه علي حمل رأسه الكبير الذي يحمل ثروة الأفكار هذه. ومن هنا فقد تردد كانط في الجواب.. وأطال التفكير, ولم يكن من عادته أن يتسرع في الرد فما بالك في هذا الموقف المحرج.. نعم لقد كان يقتحم الأفكار العقلية, بشجاعته الأدبية, لكن لم تكن له قدرة علي حمل السلاح والمبارزة, بل لم يعرف في حياته قط سلاحا سوي سلاح الحوار العقلي والمنطق والبرهان! لقد قضي أيامه بين الكتب والمكتبات والتدريس بالجامعة ثم إنه بطبيعته مسالم لا يحب الشجار والعراك فكيف يخرج من هذا المأزق..؟! وبعد تفكير عقلي قال كانط:- اسمع يا صديقي, أنت تعتقد أنني أخطأت في حق بلادك.. وأنني أهنتها عند حديثي عن الإستعمار, وتطلب مني المبارزة واختيار نوع السلاح, وأنا أوافق بشرط واحد: أن توافق علي أن نتبارز بنفس السلاح الذي تقول إنني أخطأت في استعماله وأعني به سلاح المناقشة والحوار, أي سلاح البرهان والمنطق إنه السلاح الذي وقعت به الإهانة, وهو نفسه السلاح الذي ينبغي أن تمحي به!. لقد اختار كانط سلاحه وهو واثق من قدرته علي ممارسته وبراعته فيه!, فلم يلبث خصمه أن تراجع واعترف بالهزيمة بعد حوار قصير, وطاب له الحديث مع الفيلسوف فاسترسل فيه وسارا يتحدثان ولم يشعر بنفسه إلا وهو علي مقربة من مسكن الفيلسوف فدعاه كانط لزيارته, وكانت هذه الزيارة فاتحة لصداقة طويلة بين الخصمين! وهكذا تحول القزم بدنيا إلي عملاق عن طريق الفكر, بينما تحول العملاق البدني عن طريق الفكر أيضا إلي قزم ضئيل الحجم! أما إنك تذهب للقاء نجيب محفوظ وأنت تحمل سكينا فهذا إفلاس فكري واضح لأنك لا تستطيع أن تفهم ولا أن تناقش وتحاور وتقارع الحجة بالحجة, ذلك لأنك جاهل! وأجدادك في تاريخنا لا آخر لهم: خالد بن عبدالله القسري والي الكوفة يصطحب معه واحدا من كبار المفكرين في ذلك العصر الجعد بن درهم شخصية لها وزنها وقدرها في عالم الفكر في ذلك الوقت ويسير به لصلاة عيد الأضحي ويعتلي الوالي المنبر ويخطب في الناس خطابا جامعا يقول في نهايته: أيها الناس إذهبوا وضحوا بضحاياكم, تقبل الله منا ومنكم, أما أنا فإني مضح اليوم بالجعد بن درهم فإنه يقول ما كلم الله موسي تكليما, ولا إتخذ خليلا تعالي الله عما يقول علوا كبيرا..! ثم نزل واستل سكينا من عباءته وذبح الجعد في أسفل المنبر كما تذبح الشاة!! والمسألة المعلنة أن الجعد ينفي الصفات الحسية عن الباري تعالي, وما خفي أنه كان معلما لمروان بن محمد ولقد أثر فيه تأثيرا شديدا حتي سمي مروان الجعدي! فجاء الوالي أمر من الخليفة بقتل الجعد.. باسم الإسلام السمح الذي حرم قتل النفس البريئة. قتل الجعد بن درهم ومازال يذبح كل يوم علي مرأي ومسمع منا جميعا لأسباب سياسية ترتدي مسوح الدين وتتواري خلفه! ويدخل متدينون علي مفكر عربي يقتحمون بيته ثم يطلقون عليه وابلا من الرصاص, ثم يقال لنا إن هؤلاء القتلة في الجنة يوم يبعثون وهم الناجون من النار هكذا حكموا علي أنفسهم أما غيرهم فهم في عذاب السعير- فهو لا يقول إلا كفرا!! وكأن إسرائيل وما فيها, ومن فيها-- تخلو تماما من الكفرة والزنادقة ولا تضم إلا أنقياء القلب من أهل الكتاب فهم أطهار أبرار لا يجوز مسهم- دع عنك ذبحهم, وإلا عرضت نفسك لعذاب السعير..! حدثني صديق فقال:- هل تتصور أن هذه الجماعات قتلت جنديا أثناء نوبة حراسته لكي تستولي علي سلاحه؟! ولما سألته ولم؟! قال لأنهم ينوون الجهاد في سبيل الله, ولا جهاد بغير سلاح ومن ثم فهم في حاجة إلي سلاح هذا الجندي فحلال ذبحه!! وهل الجهاد في سبيل الله لا يجوز إلا بالقتل؟! ألا يجوز الجهاد في الصحراء لزراعتها قمحا ليأكل المسلمون؟! أو بناء المدارس ليتعلم الجهلة وأدعياء التدين, أو إعداد المستشفيات لعلاج المرضي؟! ألا يمكن أن يكون هناك جهاد في الخير... ألم يقرأوا قوله تعالي ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..(125 النحل)- أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها؟!!(24- محمد).. ألا فليقرأ كل من له عينان..!!