من الصعب أن يملك أحد مقاومة إغواء عوالم الخيال والسحر التي تعج بها الموروثات الشعبية التي استغلها الأدباء علي مر العصور كخامة سخية ينسجون منها رواياتها وحكاياتهم بكل ما تحمله من شخوص و حيوات ومن أبرز تلك الإغراءات كان البحث عن أصول ما يسمي ب'المدن المسحورة', حيث كان البحث دائما عن تلك المدن وماهيتها وأصلها في التراث بابا جذب إليه العديد من الأدباء والنقاد كما حدث مع الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه' البحث عن الجنة', وكذلك حسني زينة في كتابه' جغرافية الوهم' حيث تناولا المدن المسحورة في التراث العربي, وكيف أن تلك المدن طوافة تدور بين البلاد كما ورد ذلك في الحكايات الشعبية العربية فمثلا في ليبيا تسمي المدينة المسحورة' واو' وقد تظهر هذه المدن في العديد من الدول دون أن يطلقوا عليها اسما. وفي كتابه'المدن المسحورة تجسير المسافة بين السماء والأرض' الصادر مؤخرا ضمن سلسلة الدراسات الشعبية التي تصدرها الهئية العامة لقصور الثقافة; يقدم الشاعرالدكتور فارس خضر تحليلا للمعتقدات المتصلة بفكرة المدن المسحورة بمنطقة الواحات, وذلك من خلال إعادة قراءة الموروث السردي المدون والشفاهي حول هذه المدن, والأسس المنطقية التي تجعل الجماعة الشعبية تعتقد في وجودها, ويتناول الكتاب عبر فصوله المدن المسحورة بين جغرافيا الوهم والتاريخ الميثولوجي, ومعتقدات المدن المسحورة وعناصرها, و المدينة المسحورة بالواحات الداخلة, ويختتم بالوظائف النفسية للمدن المسحورة من آليات الإبداع. واستمد فارس خضرفي كتابه معلوماته عن هذه المدن من التراث العربي المدون في الأدبيات الجغرافية والتاريخية, وكتب الرحالة وغيرهم ممن أوردوا ذكر الواحات ومدنها المختفية, فبدأ في تتبع المعتقدات والنصوص المدونة حتي اكتشف أن هناك ثمة مدينة ذائعة الصيت في الواحات يطلق عليها اسم' زرزورة' وهي مدينة وهمية صنعتها الخبرات الشعبية علي مدار العصور وتلك المدينة تشبه المدن اليوتوبية مثل مدينة' إرم' الموجودة في القرآن الكريم وهي مدينة العدل والسلام والأمن والثراء.. مدينة خالية من الأمراض الاجتماعية يحكمها الأفراد الذين يعيشون فيها ولا يوجد بها سلطة للحاكم, فالكل يحكم نفسه بنفسه والكل سعيد وفي حالة كاملة من الرضا, فهي مدينة ابتكرتها العقلية الشعبية لتعوض حالة الظلم الاجتماعي من القهر والفقر, وتكاد هذه المدينة تتطابق في صفاتها مع تلك المدن التي تتحدث عنها النصوص المدونة ومع معتقدات المدن المختفية الطوافة الذهبية التي تظهر للبسطاء كمكافأة علي أعمالهم الصالحة, تلك المدن المثقلة بماضيها الأسطوري والديني, وهكذا يتتبع الكتاب الحركة الشفاهية التاريخية والتي تعمل علي إعادة صياغة الأحداث وفق إرادة العقل الجمعي الذي يتناولها ويتداولها ويحركها في الزمان والمكان وفق إرادة الانسان الوسيط الناقل للحدث. ولعل من أبرز النتائج التي توصل لها المؤلف من خلال دراسته لتلك المدن أن المعتقدات عن المدن المسحورة محاكاة رمزية لصورة الجنة كما تقدمها الديانات السماوية, كما أكد أن المأثور الجغرافي في الواحات وخاصة' الداخلة' يلعب دورا مهما في تأكيد معتقدات المدن المسحورة, بحيث تبقي هذه المعتقدات ماثلة في الذاكرة الشعبية من خلال الاستعادة الرمزية للقري التي اختفت منذ أزمنة بعيدة بفعل زحف الرمال المتحركة, مشيرا إلي أن العقلية الشعبية تعيد الانتاج الرمزي للموروث الميثولوجي, بحيث تصحح الأخطاء التراجيدية التي حدثت في الماضي البعيد, تلك الأخطاء التي لا تقبل المراجعة والتصحيح. ففي معتقدات المدن المسحورة نجد مثلا أن الأفعي التي أخرجت آدم وزوجه من الجنة السماوية, كما في الموروث الديني الشعبي, تقف كحارسة علي بوابة' الدخول/ العودة' إلي' الجنة الأرضية' المتخيلة, كما تنتقد الحكايات الشعبية السلطتين السياسية والدينية انتقادات حادة, تصل إلي حد تحقير رموزهما, وتعلي في الوقت نفسه من شأن أصحاب المعرفة البديهية التصوفية. أوضح أن معتقدات المدن المسحورة كما تنعكس في الموروث الحكائي السردي بتجلياته الشفاهية والكتابية, تلبي نزوعا إنسانيا ورغبة دفينة لدي الجماعة الشعبية, في امتلاك العالم عن طريق الحكي, وإعادة تشكيله كما تحلم به وتصبو إليه, وأن معتقدات المدن المسحورة هي عملية خلق إبداعي يمزج بين الموروث والمتخيل. ويري المؤلف أن الكثيرين يبحثون عن هذه المدن في محاولة للوصول إلي الجنة أو حلم المدينة الفاضلة مرجعا ذلك إلي أن الجماعة الشعبية تعاني من الحرمان والفقر والمعاناة في الصحراء ولهذا فحلم العثور علي الواحة يمثل الهروب من الواقع الأليم وكثير من هؤلاء ضلوا في الصحراء ولم يعودوا, بالإضافة إلي أن الواحات عانت من الظلم للبعد عن مناطق الحكم المركزي في الكثير من العصور مما جعل أهل هذه الواحات يصدقون حلم المدينة المسحورة لتعوضهم عن الشقاء في الحياة.