في عام1989 تزاحمت الأفكار في ذهني بحكم شيوع الصراعات سواء كانت أصولية دينية مناهضة للعلمانية أو ثقافية تدور حول أزمة الهوية. بدأت الحفر حتي أتلامس مع جذور هذه الصراعات فوجدت أنها متمركزة فيالدوجماطيقية, أي في توهم امتلاك الحقيقة المطلقة.وجاء السؤال بعد ذلك علي الوجه الآتي: لماذا يقع الانسان في هذا الوهم؟ بحكم طبيعة العقل الإنساني, إذ هو يشتهي اقتناص المطلق حتي يشعر بالأمن والأمان, إلا أن هذا الاشتهاء ليس في الامكان تحقيقه لأن العقل بحكم أنه إنساني الطابع فمعرفته نسبية بالضرورة. ومع ذلك فثمة فلسفات تتخذ من المطلق نقطة البداية وترتب عليه ما يطيب لها من أفكار, ويؤسس عليها رجال الحكم أنظمة سياسية تتسم بالقهر والطغيان فيقال عنها عندئذ إنها إما نازية أو فاشية أو شيوعية أو أصولية وهي كلها تقع تحت بند الدوجماطيقية التي تفرز التعصب بالضرورة. والسؤال عندئذ: إذا كانت الدوجماطيقية آفة البشرية فكيف يمكن التحرر منها ؟ كان جوابي في عام1989 أن الابداع هو الوسيلة وليس من وسيلة سواها فعقدت ندوة بالقاهرة عنوانها الابداع والتعليم العام وبمشاركة من وزير التربية والتعليم الأستاذ الدكتور فتحي سرور الذي أعلن فيها أن مجال التعليم هو مجال متخلف وعلينا اقتحامه بفكر غير تقليدي نؤثر فيه الابداع علي الاتباع, وبالتالي نؤثر فيه التقدم علي التخلف, ومصر في حاجة إلي هذا اللون من التفكير. ويترتب علي ذلك ضرورة تغيير أسلوب التعليم الذي يعتمد علي التلقين والحفظ. فالمدرس يلقن الطالب الحقيقة المطلقة في كل مجال من مجالات المعرفة, وما علي الطالب بعد ذلك سوي حفظ مجموعة من الحقائق المطلقة من غير نقد لها فيغتال العقل الذي هو في جوهره مبدع. ولا أدل علي ذلك من أن سبب نشأة الحضارة مردود إلي أن الانسان حيوان مبدع, إذ هو الذي ابتدع التكنيك الزراعي الذي يسمح بتحويل بيئة غير زراعية إلي بيئة زراعية. ومن هنا جاء تعريفي للإبداع علي النحو الآتي: هو قدرة العقل علي تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم. ومعني هذا التعريف أن الجدة لا تكفي لكي يقال عن الانسان إنه حيوان مبدع بل لابد من ملازمة التغيير للجدة. وعلي هذا النحو شاع مفهوم الابداع إلي الحد الذي طالبت فيه بعض المدارس الخاصة بتدريب مدرسيها وطلابها علي الابداع, كما وافق معهد جوته بالقاهرة علي عقد خمس ندوات عن الابداع. في ذلك العام, عام1989, التقيت العالم النفسي هانس أيزنك(1916-1997) بريطاني الجنسية من أصل ألماني وكاره للنازيةوكان أستاذا لعلم النفس بمعهد الأمراض العقلية بالكلية الملكية بلندن. وقد تم اللقاء بترتيب من المجلس البريطاني بالقاهرة لإجراء حوار معه حول مشروعي عن الابداع والتعليم العام. وفي بداية الحوار أعلن أيزنك رفضه للمشروع بدعوي أن تعريفي للإنسان بأنه حيوان مبدع يحيل المجتمع إلي فوضي, هذا بالإضافة إلي قوله بأن الابداع علي علاقة حميمة بالجنون. وكان ردي علي النحو الآتي: عندما يشيع الابداع بين البشر أجمعين بحكم تعريفي للإنسان بأنه حيوان مبدع فهذا الشيوع لا يترتب عليه إحالة المجتمع إلي فوضي لأن الابداع نفسه محكوم بقانون وهو علي النحو الآتي: ثمة وضعان: وضع قائم ووضع قادم. وعندما يتأزم الوضع القائم يلزم تأسيس وضع قادم ليكون بديلا عن الوضع القائم المأزوم. والوضع القادم ينطوي علي رؤية مستقبلية. المستقبل اذن وليس الماضي هو المحايث في الابداع. ومعني ذلك أن التغيير يبدأ من المستقبل وليس من الماضي. ومن هنا كانت الأصولية, أيا كانت سمتها الدينية, ضد الابداع لأنها ملتزمة بماض فاقد فاعلية التغيير. أما القول بأن الابداع علي علاقة حميمة بالجنون فهذا القول لا يستقيم مع تعريفي للإبداع بسبب أن الابداع, عندي, لا يقف عند حد تكوين علاقات جديدة بل يتجاوزه إلي حد التغيير. والمجنون, علي الرغم من قدرته علي ابداع ما هو جديد إلا أن هذا الجديد موجود في عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع. ومن هنا ارتأيت أن ثمة فارقا كيفيا بين الابداع السوي والابداع المرضي وهو أن المبدع السوي يفضي فعله بالضرورة إلي إحداث تغيير في الواقع أما المبدع المريض فان فعله عاجز عن إحداث أي تغيير في الواقع. والمفارقة هنا أن أيزنك قد أصدر كتابا عنوانه العبقرية في عام1995, أي بعد اللقاء بست سنوات وجاء في خاتمته أنه يحرض الأطفال علي الابداع وأنه يدعو إلي تأسيس التعليم علي الابداع ومن ثم يكون الدين المرموق هو دين العقل المفتوح, كما أنه يدعو إلي إزالة عقبات ثلاث أمام الابداع: التعصب والبيروقراطية والسلطة. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال أوباما فماذا تري؟ رئيس دولة عظمي ومتحضرة لديه إدمان هو وسفيرته بالقاهرة في الدفاع عن جماعة الاخوان المسلمين التي تحذف المستقبل وتقدس الماضي وتكفر من يبدع بل تقتله إذا لزم الأمر, وبذلك يكون هو وهي من أعداء البشرية. لمزيد من مقالات مراد وهبة