المساعدات الأجنبية التي اعتادت دول كبيرة وغنية تقديمها للدول النامية أو الفقيرة لم تعد ضمانة مأمونة, فالدول المانحة للمساعدات أصبحت, نتيجة التغيرات التي طرأت علي الأوضاع الإقتصادية في العالم تعاني من مشكلات مالية واقتصادية تجعلها غير قادرة علي الاستمرار في تقديم المساعدات. سلطت الأضواء علي هذا الموضوع أثر الجدل الدبلوماسي الحاد الذي حدث بين بريطانيا وجنوب أفريقيا منذ أيام بعد أن قررت بريطانيا التوقف عن تقديم المساعدات إلي جنوب أفريقيا, واتهام حكومة جنوب أفريقيا للوزراء المسئولين في بريطانيا بأنهم تصرفوا دون تحذير مسبق قبل اتخاذ هذا القرار الذي وصفوه بأنه ستكون له أضرار بعيدة المدي علي العلاقات بين البلدين. وكان قرار الحكومة البريطانية قد تضمن التوقف عن تقديم مبلغ19 مليون جنيه إسترليني سنويا إلي جنوب إفريقيا حيث أعلنت السكرتارية العامة للتنمية الدولية في بريطانيا أن اقتصاد جنوب إفريقيا أصبح جاهزا لتمويل التنمية الخاصة لجنوب أفريقيا بمعني أن جنوب أفريقيا قد تحسن اقتصادها بدرجة كبيرة وملحوظة فأصبحت تستطيع أن تمول مشروعاتها بنفسها دون الاعتماد علي المساعدات الخارجية. تجدر الإشارة هنا إلي أن بريطانيا كانت تخصص مبلغ8.8 مليار جنيه إسترليني كميزانية مساعدات لدول الكومنولث التي تضم بريطانيا والدول التي كانت استعمرتها في الماضي واستقلت عنها. وكانت المساعدات البريطانية لجنوب أفريقيا قد ساعدتها علي النمو وتطور أوضاعها بالخروج من النظام العنصري إلي النظام الديمقراطي المتطور وانتعاش اقتصادي جعل بريطانيا تقتنع بأن جنوب افريقيا إستطاعت بذلك أن تحقق تقدما اقتصاديا كبيرا خلال العشرين سنة الماضية, بحيث أصبحت الأن قوة اقتصادية كبيرة في المنطقة, وهي أكبر شريك تجاري لبريطانيا في قارة أفريقيا عموما, وهو ما جعل بريطانيا تدرك بأن وضع جنوب أفريقيا الأن يمكنها من الاعتماد علي نفسها في التنمية فكان قرارها بإيقاف المساعدات السنوية لها. وبالرغم من أن جوستين جريننج وزيرة التنمية الدولية في بريطانيا قد صرحت بأنها كانت قد بحثت موضوع إيقاف المساعدات لعدة شهور مع وزير المالية في جنوب أفريقيا, إلا أن رد الفعل من جانب جنوب أفريقيا ظهر في شكل الإحساس بالمفاجأة وعدم تصديق حدوث مثل هذا القرار, كما أعلنت حكومة جنوب أفريقيا بأنها تأسف لهذا التصرف من الحكومة البريطانية بإيقاف المساعدات السنوية إليها والتي تساعدها علي خطة التنمية وذلك إبتداء من عام.2015 وقالت حكومة جنوب أفريقيا إن مثل هذا القرار ستكون له تأثيرات بعيدة المدي علي المشروعات التي تخطط لتنفيذها الدولة, وأشارت إلي أنه كان من الأفضل أن تنتظر الوزيرة البريطانية جريننج حتي موعد انعقاد القمة البريطانية الجنوب أفريقية في نهاية العام الحالي لطرح هذا القرار بدلا من التعجل غير المبرر. وعلق مسئولون في جنوب أفريقيا علي القرار البريطاني بأنه تصرف من جانب واحد تجاه دولة من أكبر الدول الصاعدة في العالم, وأن صدوره بهذه الطريقة ليس في مصلحة بريطانيا نفسها. وكما تقول صحيفة التايمز البريطانية فإنه علي الرغم من التقدم الاقتصادي الذي حققته جنوب أفريقيا فإنها مازالت تعاني من أوضاع صعبة منها عدم المساواة في الدخل بين المواطنين وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب ووجود فجوة كبيرة في الدخل بين السود وبين البيض الذين يزيد دخلهم بمقدار ست مرات عن السود. ومازال هناك معدل كبير من الفقر ولذلك فإن القرار البريطاني يمكن أن يكون له تأثيره علي الخطط التي وضعتها بالفعل حكومة جنوب أفريقيا للقضاء علي هذه المشكلات الاقتصادية. ومن المعروف أن توني بلير عندما كان رئيسا لوزراء بريطانيا عام2001 كان قد أعلن أن الحكومة البريطانية ستفعل كل ما في وسعها لإنفاق المزيد من المال من أجل خفض معدلات الفقر في أفريقيا قبل عامي2004 و2005, وأعلنت وقتها إدارة التنمية الدولية في بريطانيا عن إنفاق مبلغ883 مليون جنيه إسترليني كمساعدات لدول القارة الأفريقية, وأن برنامج المساعدات البريطانية للقارة السمراء حتي عامي2007 و2008 سيكون قد أنفق مبلغ مليار و265 مليون جنيه استرليني قيمة المساعدات الخارجية التي تقدمها للقارة. وكانت هناك عدة أسباب وراء تقديم هذه المساعدات للدول الأفريقية أهمها أن بريطانيا كدولة مستعمرة لهذه البلاد كانت قد استولت علي الكثير جدا من ثرواتها دون مقابل وهو ما وضع عليها مسئولية أخلاقية ودولية للمساعدة في الحد من معدلات الفقر العالية في القارة, فضلا عن أن بريطانيا لاتزال تربطها بالدول الأفريقية علاقات تجارية نتيجة إستيرادها الكثير من احتياجاتها من المواد الأولية من أفريقيا. المشكلة التي دفعت بريطانيا في رأي الكثير من المحللين إلي هذا القرار, والذي سبقه قرار آخر بوقف مساعداتها للهند, هو أن من بين هذه الدول التي تتلقي المساعدات دول استطاعت بالفعل أن تحقق تقدما اقتصاديا كبيرا ونموا مستمرا ومنها علي سبيل المثال الهند, بينما بريطانيا نفسها بدأت تعاني من مشكلات إقتصادية داخلية وصعوبة في المنافسة في أسواق العالم مع عدد من هذه الدول الصاعدة, ومنها الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وغيرها من الدول الأخري. ولذلك فإن وجهة نظر بريطانيا الآن تقوم علي ضرورة أن يكون لدي قيادات الدول الأفريقية رؤية حول توفير الموارد الذاتية دون الاستمرار في الاعتماد علي المساعدات من الخارج خاصة وأن الدول الأفريقية لديها موارد كبيرة, لكن من لم يستطع أن يحقق التقدم الكبير حتي الآن هو من تنقصه الرؤية لتحقيق ازدهار اقتصادي بقيادة واعية وإرادة جيدة.