إقبال الطلاب على ورش مراكز الموهوبين والتعلم الذكي بإدارة شرق الإسكندرية    تراجع أسعار الذهب في ختام تعاملات الأربعاء 26 يونيو    تقرير عبري: إسرائيل مستعدة لمحاولة إضافية من أجل التوصل إلى تسوية في الجبهة الشمالية    انسحاب المرشح قاضي زاده هاشمي من الانتخابات الإيرانية    جورجيا تضرب البرتغال بالهدف الثاني في يورو 2024    بالأسماء.. مصرع وإصابة 9 أشخاص إثر اصطدام سيارتين بالطريق الزراعى بالبحيرة    السيطرة على حريق في محول كهرباء بقنا    كريم عبد العزيز يعلق على ظهوره برفقة الملاكمين جوشوا ودوبوا: الخناقة هنا بمستقبل    مسئول أمريكى يؤكد بأن الجميع لا يريد حربا بين إسرائيل وحزب الله    5 صور ترصد زحام طلاب الثانوية العامة داخل قاعات مكتبة الإسكندرية    جولر يقود تشكيل تركيا ضد التشيك فى يورو 2024    التعليم تعلن نتيجة امتحانات الدور الأول للطلاب المصريين بالخارج    قرار جديد من الداخلية بشأن التسجيل بدفعة معاوني الأمن الجديدة للذكور    تفاصيل عرض برشلونة لخطف جوهرة الدوري الإسباني    على أنغام أغنية "ستو أنا".. أحمد سعد يحتفل مع نيكول سابا بعيد ميلادها رفقة زوجها    "يا دمعي"، أغنية جديدة ل رامي جمال بتصميم كليب مختلف (فيديو)    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟.. أمين الفتوى يجيب    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    صندوق النقد الدولي يقر بتمويل 12.8 مليون دولار للرأس الأخضر    «قطاع الآثار»: فيديو قصر البارون عار تمامًا من الصحة    أزمة جديدة تواجه شيرين عبد الوهاب بعد تسريب 'كل الحاجات'    لماذا يقلق الغرب من شراكة روسيا مع كوريا الشمالية؟ أستاذ أمن قومي يوضح    الرئيس السيسي يوقع قوانين بربط الحساب الختامي لموازنة عدد من الهيئات والصناديق    وزير الرى يدشن فى جنوب السودان مشروع أعمال التطهيرات بمجرى بحر الغزال    "شباب النواب" توصى بصيانة ملاعب النجيل الصناعي في مختلف محافظات الجمهورية    بشرى لطلاب الثانوية العامة.. مكتبة مصر العامة ببنها تفتح أبوابها خلال انقطاع الكهرباء (تفاصيل)    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    كيف يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على الرحلات الجوية؟.. عطَّل آلاف الطائرات    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    مهرجان فرق الأقاليم المسرحية.. عرض «أحداث لا تمت للواقع بصلة» و«الحضيض» الليلة    منتخب اليد يتوجه إلى كرواتيا 4 يوليو استعدادا لأولمبياد باريس    خبير شئون دولية: فرنسا الابن البكر للكنيسة الكاثوليكية    «مياه كفر الشيخ» تعلن فتح باب التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    بيراميدز يترقب مصير أحمد حجازي مع اتحاد جدة    المشدد 15 سنة لصاحب مستودع لاتهامه بقتل شخص بسبب مشادة كلامية فى سوهاج    اخوات للأبد.. المصري والإسماعيلي يرفعان شعار الروح الرياضية قبل ديربي القناة    «التمريض»: «محمود» تترأس اجتماع لجنة التدريب بالبورد العربي (تفاصيل)    الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي: صرف معاشات شهر يوليو اعتبارا من الخميس المقبل    نجم ميلان الإيطالي يرفض عرض الهلال السعودي ويتمسك بالبقاء في أوروبا    وزيرة البيئة تتابع حادث شحوط مركب سفاري بمرسى علم    الصحة: استجابة 700 مدمن للعلاج باستخدام برنامج العلاج ببدائل الأفيونات    الإعدام لثلاثة متهمين بقتل شخص لسرقته بالإكراه في سوهاج    شديد الحرارة رطب نهارًا.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس غدا الخميس    لجنة القيد بالبورصة توافق على الشطب الإجبارى لشركة جينيال تورز    ختام دورة "فلتتأصل فينا" للآباء الكهنة بمعهد الرعاية    تعيين 4 أعضاء جدد في غرفة السلع والعاديات السياحية    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الاحتلال يمارس جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة    فحص 764 مواطنا فى قافلة طبية مجانية بقرى بنجر السكر غرب الإسكندرية    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الأكاديمية الطبية تفتح باب التسجيل في برامج الماجستير والدكتوراة بالمعاهد العسكرية    أحمد فتحي: انسحاب الزمالك أمام الأهلي لا يحقق العدالة لبيراميدز    «حلو بس فيه تريكات».. ردود فعل طلاب الثانوية الأزهرية بقنا عقب امتحان النحو    الجريدة الكويتية: هجمات من شتى الاتجاهات على إسرائيل إذا شنت حربا شاملة على حزب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بونابرت..
رحيل الطاغية
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 06 - 2013

أكثر من صفعة تخللها وقع السياط هوت في مناسبات عديدة علي صفحة وجه نابليون بونابرت وجسده عقابا وتقويما, وزهقا من شقاوته, في سنوات الطفولة,
فظل وقعها يمثل الذكريات العطرة للأم التي عانت وربت ودبرت واستأسدت لمواجهة الخطوب دفاعا عن الأبناء.. أرملة في الخامسة والثلاثين في رقبتها ثلاثة عشر ابنا وابنة تتسلق بهم الصخور وتعبر الأنهار علي ظهر الجياد وتختبئ في الأحراش وتهش أزيز الرصاص من حول أذنيها, وتشارك ثوار كورسيكا غضبتهم للدفاع عن الحرية, وتعتلي بأسرتها الواجفة الراجفة التي أفقدها الكفاح خمسة من أفرادها طوفا خشبيا يسبح بهم علي وجه اليم بين السماء والماء أياما لا يلوي علي شيء, بلا نجم يهدي في الأفق, ولا ريح تسوقهم لليابسة, في رحلة الهروب للوصول إلي بر الأمان في مارسيليا.... لاتيسيا رامولينو ابنة مدينة أجاكسيو بجزيرة كورسيكا التي تزوجت في الرابعة عشرة بالمحامي الكورسيكي المناضل شارل بونابرت الحاصل علي الدكتوراه في الحقوق من جامعة بيزا ليقضي عليه سرطان المعدة الذي أورثه لابنه نابليون ولم يزل في الثامنة والثلاثين لتستيقظ حواسه فجأة قبل النفس الأخير ليهتف بصوت مرتفع وكأن غشاوة قد انزاحت فجأة عن عينيه المنطفئتين: أين نابليون؟!.. أين الابن الشقي الذي سيغير من وجه العالم؟!.. وكان نابليون وقتها لم يزل في الثانية عشرة!!
في خضم صفعات الطفولة ذكري تشبثه صغيرا بعدم الذهاب إلي الكنيسة يوم الأحد للصلاة مع بقية الأسرة, فما يكون من الوالدة إلا أن هبطت بكفها علي خده مرتين مدويتين رسمتا له طريق الالتزام الكنسي!.. وذات يوم ذهبت فيه الماما لزيارة صديقة لها فتبعها نابليون الصغير دون استئذانها لتلمحه من بعيد أثناء عبورها الميدان فتنتظره علي الرصيف المقابل بإشارة متعجلة لينطلق نحوها بسعادة تتجاهلها ليفاجأ بزلزال الصفعة التي تلقيه أرضا.. وحدث أن تسلل إلي شجرة التين ليقطف ثمارها التي طابت, وعندما جاءت الأم لتجنيها واكتشفت فعلته كان عقابه يومها بالسوط بالغا.. واستهزأ بالجدة مقلدا مشيتها المتوكئة علي العصا مطلقا عليها لقب الجنية العجوز فنظرت إليه أمه شذرا مما دعاه للاختباء في غرفته, لكنها طاردته إليها وفين يوجعك بعصا الجدة.. وفي ذكرياتها عن طفولته قالت لاتيسيا: كان نابليون أجرأ أولادي وأذكر أنني كنت عادة ما أفرغ إحدي غرف البيت من أثاثها لتكون مرتعا لهم, فكانوا يتبارون في القفز والتمثيل ورسم الصور الفكاهية علي الجدران, هذا بينما كان نابليون الذي اشتريت له طبلة صغيرة وسيفا من الخشب الوحيد الذي يقود إخوته علي رتم دقاتها شاهرا سيفه, أو يرسم مع دوران الجدران طابورا من الجنود علي أهبة القتال.. ويقول نابليون عن أمه: كان لها رأس رجل علي جسد امرأة ويهمس لطبيبه الكورسيكي أنطومركي الذي أرسلته إليه أمه لمرافقته في منفاه بجزيرة سانت هيلانة: إنك لا تدخر شيئا لتخفيف آلامي ولكن كل ذلك لا يرقي لحنان أمي.. آه يا أمي لاتيسيا.. وكانت جميع مساعي الأم قد باءت بالفشل في السماح لها بالسفر للابن في منفاه لتبقي إلي جواره في مرضه, وكان آخر التماس لها الذي أرسلته إلي ملوك وأباطرة مؤتمر إكس شابل المنعقد للحلفاء في عام1818 تصرخ فيه: يا أصحاب العروش قدروا مشاعر أم حياة ابنها أعز من حياتها فلا تخيبوا مسعاها.. إن وجودي إلي جانبه سيخفف ولو قليلا من معاناته.. ولم تلق لاتيسيا استجابة لنداءاتها لا من إمبراطور النمسا حما ابنها, أو إمبراطور روسيا, أو ملك بروسيا.. وبعد وفاة الإمبراطور قهرا في الجزيرة سيئة السمعة أرسلت الأم في5 مايو1821 مظلمة إلي وزير خارجية بريطانيا العظمي جاء فيها: إن نابليون لم يعد في حاجة إلي مجد فاسمه وحده قد صنع مجده, لكني كأم أريد استنشاق رفاته ودفن وجهي فيما بقي لي منه.. ولم يصلها الرد من اللورد الإنجليزي البارد.. وعاشت لاتيسيا خمس عشرة سنة بعد وفاة ابنها نابليون لترحل في2 فبراير1836 وقد فجعت بموت حفيدها منه في عام1832 في قصر شنبرن بالنمسا ولم يزل في الحادية والعشرين من عمره, ولم تكن قد أخذته في أحضانها منذ عام1814, ولو امتدت حياتها خمس سنوات لشاهدت احتفالات نقل رفات ابنها إلي الانفاليد بباريس.. ولعلها لم تكن المرة الأولي التي لم تحضر فيها الأم لاتيسيا حفلا للابن حيا أو ميتا, فقد كانت علي سفر للحاق بشقيقه لوسيان بونابرت كي تقنعه بالتصالح مع شقيقه نابليون الغاضب عليه لزواجه من فتاة عادية لا تعدو أن تكون ابنة لصاحب النزل الذي يقيم فيه.. ولم توفق الأم في مهمتها وبذلك لم تعد إلي باريس إلا بعد حفل التتويج حيث أوعز نابليون للمصور العالمي دافييد كي يتلافي الأزمة بضرورة رسم الأم في اللوحة التذكارية للتتويج, فما كان من الفنان المبدع إلا أن قام برسمها إلي يمين المذبح تطل من منصة مرتفعة وكأنها تشرف من موقعها علي الحفل الباذخ أمامها.
لاتيسيا التي دعاها المؤرخون أم الملوك فهي والدة الإمبراطور نابليون بونابرت, وأم جوزيف بونابرت الأول ملك نابولي ومن بعدها ملكا لإسبانيا, ووالدة لوسيان أمير كانينو, ووالدة لويس بونابرت الأول ملك هولندا, والأم لجيروم نابليون الأول ملك وستفاليا, وأم اليزا باتشيوشي أميرة لوك وبيومبينو وغرنوقة تسكانا, وأم بولين بورجيزي أميرة جواستالا, وأم كارولين مورات غرنوقة براغ وملكة نابولي.. أم الملوك خلع عليها ابنها الإمبراطور لقب السيدة الوالدة وخصص لها قصر التريانون الكبير الذي بناه لويس الرابع عشر تساعدها فيه حاشية علي رأسها كاترينا العجوز التي شهدت ولادة نابليون, وكاميلا إيلاري مرضعته التي حضرت حفل تتويجه, وسافيريا التي كانت أجرتها لا تتعدي ثلاثة فرنكات.. ولأنها أصبحت السيدة والدة الإمبراطور فإنه تبعا للقانون الذي لا يمنح راتبا لمواطن فرنسي دون أن تكون له وظيفة حكومية, فلقد خلع نابليون علي أمه لقب المحامية العامة لمؤسسات الإحسان والمحبة في الإمبراطورية.. ورغم إطار الأبهة الذي يحيطها ظلت لاتيسيا حتي وفاتها تعيش حياة البساطة كما في أجاكسيو أي أن مائدة القصر لا تستقبل أطباقا إلا السمك والتين وجبن الماعز, ولا يشغل دولاب ملابسها سوي ثوبين من النسيج الخشن وشال صوفي للأكتاف, وزوارها بعض الكهنة, وسهراتها بألعاب الورق البدائية مع كاميلا, ويظل النور ضعيفا في الردهة, والنار قليلة في الموقد, والادخار وترشيد الاستهلاك سيفا مسلطا علي الجميع: يقولون إني بخيلة ولكنني لا أبالي فليس علي كاهلي دين يؤرقني وأنا أضع دائما مائة ألف فرنك جاهزة تحت طلب أولادي فمن يدري فربما يأتي اليوم الذي يصبح فيه هذا المبلغ بمثابة الجائزة الكبري لأي منهم..
ذلك التقشف الذي عاشته الأم لم تورثه لأحد من الأبناء فها هو نابليون علي سبيل المثال قد حمل معه من فرنسا إلي سانت هيلانة أدوات مائدة باهظة الثمن كان يستخدمها بانتظام, السكاكين والملاعق والشوك فيها من الذهب الخالص والأطباق من السيفرporcelainsvers, والخدم يرتدون ملابسهم الرسمية الخضراء المحلاة بالذهب, وكان علي الجميع مخاطبته بلقب الإمبراطور, ورغم المظهر الباذخ فقد عششت السلبيات بين الجدران المتصدعة لتستوطن الفئران منزل الإمبراطور بل وتلهو بقبعته التاريخية, وكانت تجري حول أرجل المائدة وهو يتناول طعامه, ولم تكن البراغيث ولا البق لتميز بين الخادم والإمبراطور, ولقد تذمر الكونت أوجستين دي لاكاس أحد مرافقي الإمبراطور قائلا: لقد أكلتنا الحشرات بكل معني الكلمة... ونظرا لقرار الحكومة البريطانية بخفض التكاليف التي تنفقها علي نابليون وحاشيتة البالغة51 شخصا في المنفي من18 ألف جنيه استرليني إلي8 آلاف فقط, فقد عرض نابليون دفع الفارق من مدخراته في بنك باريس, لكن الحكومة البريطانية لم تقبل العرض لتعم الكآبة يوما بعد يوم, ويفتقد الإمبراطور حمامه الدافئ, وتتقلص جولاته بالحصان بعد متابعته بضابط بريطاني لرصد تحركاته, وتحديق أفراد الحراسة ليلا عبر نوافذ بيته... ولا يعود لديه سوي الشطرنج الذي كان يضجر بانتصاره الدائم فيه لعدم وجود ند له يجرؤ علي هزيمته, فيلقي بنفسه بين ضفتي كتاب فهو العاشق للقراءة الذي كان يأخذ معه مئات المجلدات في أثناء المعارك, وقد حمل معه800 مجلد إلي( واترلو) وحدها من بينها سبعون مجلدا لفولتير وقد جلب معه إلي سانت هيلانة400 كتاب من فرنسا, وأرسل طلبا للحكومة البريطانية طالبا عددا من الكتب التعليمية وصلته في يونيه1816, تبعتها شحنة أخري في العام التالي, ليصبح خبيرا في معارك الإسكندر الأكبر وهانيبال وقيصر.. وقرأ مرارا درامات كورنيل وراسين وأعاد قراءتهما بصوت عال أمام رفاقه ويوزع عليهم أدوارها, وكان يحب الأدب الإنجليزي, ويستعيد روحانية الصلاة في بيت الشيخ البكري بمصر, عندما جلس متربعا فوق الوسادة وقد أغلق سترته السوداء إلي ذقنه يهتز بانتظام مع المشايخ بقفاطينهم وعماماتهم, عندما يستمعون لآيات القرآن ويتلون دعواتهم علي مسابحهم, وكان يري أن ذكريات الأيام السعيدة قد تخفف من الأحزان الحالية, وإن كانت تعمقها في الوقت نفسه.. ولقد هتف قائلا: لقد كانت إمبراطورية جميلة! لقد كان هناك83 مليون إنسان تحت حكمي.. آه إنهم نصف سكان أوروبا.. وفي أقواله واعترافاته المتلاحقة التي كان يمليها علي من حوله من الضباط والقادة السابقين الذين تركوا الوطن للحاق به متحولين من السيف إلي القلم لتسجيل ذكريات الإمبراطور خوفا علي التاريخ من الضياع, لذا فقد أعطي نابليون تشجيعا لكل منهم الحق الكامل للتصرف في مخطوطته وما تدره من عائد, والحقيقة أن كل مخطوطة منها قد أفاضت عند نشرها علي كاتبها ثروة ضخمة خاصة أن نابليون كان يطرق جميع الموضوعات بداية من الزراعة حتي زيوس كبير الآلهة وكان من رأيه في الدين أن الكهنة يجب أن يتزوجوا, ولكنه عاد للقول بأنه يتردد في الاعتراف لكاهن متزوج لئلا يبوح بسر الاعتراف لزوجته في ساعة انسجام.. وينتقل في الكلام من العهد الجديد إلي العهد القديم فيقول: إن موسي كان شديد الذكاء وكان اليهود ساقطين وجبناء وقساة وقال إنه يبغي اتساع وقته ليدون معارك موسي كلها مع اليهود..
في حياة الإمبراطور زوجتان.. الأولي ماري جوزيف روز جوزفين التي كانت تكبره بست سنوات إلا أنه سجل في عقد القران بأنه ولد في5 فبراير1768, وصرحت هي بأن ميلادها في1767 فزاد الأول من عمره سنة ونصف, والثاني حذفت من عمرها أربعة بحيث لم يبق بينهما فارق سوي ستة أشهر, وكان لها من زوجها السابق ابن وابنة لكنها لم تنجب لنابليون وريثا للعرش, ورغم ذلك فقد وضع فوق رأسها تاج الإمبراطورية في30 نوفمبر1804 بقصر التويلري لتغدو الزوجة الشرعية التي يعترف بها البابا والملوك والشعب.. وإزاء النبرة التي ارتفعت تطالب الإمبراطور بطلاقها اقترح الزوج العاشق عليها التظاهر بالحمل لعدة شهور لخداع الجميع علي أن يقدما بعد التسعة أشهر طفلا يدعون أنه ابن الإمبراطور, ووافقت جوزفين التي لم تستطع من خلال400 ثوب مغر أن تأتي بطفل شرعي من زوجها علي الاقتراح المؤامرة, ولم تبق سوي موافقة كورفيزار طبيب الإمبراطور الخاص الذي كشر عن أنيابه متأهبا لمغادرة القصر والبلاد تجنبا لفضيحة قد تتفجر لأوهي سبب, ووجد الخال الكولونيل فوشه الحل بسيطا في قوله: المفتاح في موت الإمبراطورة ليستطيع الإمبراطور الزواج من امرأة ولود كي لا يرثه إخوة غير قادرين علي إدارة شئون البلاد فيغتنم أنصار البوربون الفرصة ويستولون علي الحكم.. ويروي بعدها المسيو دي بوصه بوصفه قيم القصر ما حدث في30 نوفمبر1809 في مذكراته: ناداني نابليون إلي جناحه ليتناول من يدي فنجان القهوة فأبصرت الإمبراطورة مسجاة فوق الكنبة تنتحب بصوت يلين له الجماد قائلة:( لا أقوي علي الحياة بعد ذلك).. فأمرني نابليون بحملها إلي غرفتها, وأسرع يفتح لي باب سرداب جانبي يسبقني فيه لينير لي الطريق بالشموع, وخشيت التعثر في الدرجات المظلمة فما كان من الإمبراطورة التي أحملها واستشعرت الجهد الذي أبذله كي لا تسقط من بين ساعداي إلا أن تهمس في أذني قائلة:( حاذر فإنك تضغط علي كثيرا) فعلمت أنه لا خوف علي حياتها وأنها لم تصب بالإغماء للحظة واحدة.. بعدها في الغد كانت جوزفين ترافق الإمبراطور في الحفل الراقص بدار بلدية باريس حيث بدت شامخة رابطة الجأش لتكون المرة الأخيرة لظهورها بصفة رسمية قبل الطلاق الذي احتفظت بعده بلقب إمبراطورة تحصل علي مرتب سنوي قدره ثلاثة ملايين فرنك... وأبدا لم ينقطع سيل الهدايا من المطلق العاشق وكان من بينها عقد لا مثيل له من الزمرد.. و..تسقط باريس في قبضة المتحالفين في شهر مايو1814 وتهرب الزوجة الثانية( ماري لويز) أم الابن الوحيد وريث العرش ولا تهتم بزوجها الذي جافاه الحظ.. وتكتب جوزفين إلي نابليون من قصر الماليزون( قل كلمة واحدة أهرع إليك).. ولا يكتب نابليون تلك الكلمة!..
و..إلي سانت هيلانة يسافر الطبيب الكورسيكي انطومركي مبعوث الأم لاتيسيا للإشراف الطبي علي الابن الغائب وراء البحار فيمطره المريض المحدد إقامته داخل جزيرة صخرية بوابل من الأسئلة عن جميع أفراد الأسرة بداية من أمه فيجيبه الطبيب بأنها في انتظار إشارة انفتاح لتركب البحر لتضمك إلي صدرها.. والبرنس دي كانينو؟ قال إنه اتفق مع جوزيف علي أن يأتي كل منهما بالتناوب لقضاء ثلاث سنوات عند جلالتك إن لم ترفض ذلك.. وماذا عن بولين؟ قالت أيضا إنها في انتظار أوامرك لتسرع في المثول بين يديك.. ويصمت نابليون ليعاود القول: لا أطيق أن يأتي أحد من أفراد أسرتي إلي هذه الجزيرة الملعونة ويتجرع كؤوس الإهانة من الإنجليز فحسبي أن أتجرعها وحدي.. ولعلها المرة الوحيدة التي لمح فيها إلي خيانة زوجته ماري لويز عندما قال: إن ماري متناهية الرقة وبساطة القلب وتحمل لي حبا يفوق الوصف, ولو كان لها مستشارون صادقون غير( منتبلو) اللئيم و(كورفيزار) الوغد لقامت بملازمتي في كل مكان, وعلاوة علي ذلك فقد عين لها والدها المدعو نيبرج السافل ليلازمها في أسفارها وتحركاتها, ورغم حبي لها فإنني أحب جوزفين أكثر منها, فهي الزوجة الأولي التي صحبتني في السراء والضراء, وارتقيت معها سلم المجد, ولو أنها أنجبت لي ولدا لما افترقت يوما عنها, ولو تم ذلك لكان من يمن طالعها وطالع فرنسا, ولولا اقتراني بماري لويز لما حاربت روسيا, وسأظل أذكر عندما حاولت اصطحابها لزيارة جوزفين أنها أجهشت بالبكاء وتذرعت بجميع الحيل حتي تثنيني عن ذلك المشروع الإنساني.. و..يكتب نابليون بخط يده في الصفحة الأولي من وصيته: أترك لابني الآنية الفضية وسريري وسلاحي وسروجي ومهاميزي وكتبي وملابسي التي كنت أستعملها وأرغب في أن تكون هذه التركة اليسيرة عزيزة عنده فتذكره بوالده الذي تحدثه الدنيا عنه.. وكل ما ينتج عن المال الموضوع في المصرف بباريس ويزيد علي خمسة ملايين وستمائة ألف فرنك يوزع كهبة علي جرحي( واترلو), وتحمل الصفحة الأولي من وصية إمبراطور المنفي أرغب بأن يثوي رفاتي علي ضفاف نهر السين بين الشعب الفرنسي الذي أحببته كثيرا.
يموت نابليون ويسارع الطبيب أنطومركي بطلبه: طلبت أن يأتوني بجبس لكي أصنع به قالبا لأخذ صورة مطابقة لوجه الإمبراطور فلم يجدوا طلبي في الجوار فاهتدي الدكتور برتون إلي نوع من المعدن الشبيه فصنعت منه القالب المنضبط, وباشرت بعدها عملية التشريح التي حضرها اثني عشر شخصا منهم ثمانية أطباء وقمت بتسجيل عدة ملاحظات منها: إن الإمبراطور قد أوصي بشعر رأسه لأعضاء أسرته.. إنه قد هزل هزالا شديدا بعد وصولي إلي الجزيرة وأصبح يزن ربع ما كان عليه من قبل.. ظلت طلعته جميلة وكانت عيناه مطبقتين وكأنه مستغرق في النوم, وكان علي فمه شبه ابتسامة ضاقت في الجهة اليسري وكأنه كان يضحك متهكما.. كان طوله من أم رأسه إلي أخمص قدميه خمسة أقدام وبوصتين وأربعة خطوط.. كان شعره خفيفا بلون كستنائي فاتح.. الرقبة قصيرة قليلا إلا أنها بحكم العادية.. يداه وقدماه صغيرتان إلي حد ما ولكنهما جميلتان وحسنة التركيب.. هناك أثر كي علي ذراعه اليسري وعدة ندوب منها ندب في رأسه وثلاثة في ساقه اليسري وواحد في كعبه للجهة الداخلية وآخر علي طرف بنصر اليد اليسري وكثير غيرها علي الفخذ الأيسر.. علي طرف المعدة الأيمن تصلب سرطاني علي شكل دوائر, وكانت الكلية اليمني في حالة طبيعية أما اليسري فمقلوبة علي العمود الفقري وأطول من الأولي وأضيق منها وفي غير موضعها ومع ذلك كانت سليمة... و..لما انتهيت من العمل أخذت القلب والمعدة لأصحبهما معي إلي أوروبا ولكن حاكم الجزيرة منعني من ذلك, فأبقيت القلب في الإناء الذي وضعته فيه, ونقلت المعدة إلي إناء آخر من الفضة اسطواني الشكل كان نابليون يضع فيه اسفنجة الحمام, وملأت الإناءين بالكحول ولحمتهما ووضعتهما في زاوية التابوت, حيث وسد الإمبراطور علي فراش ووسادة من الحرير الأبيض بعدما ألبسه الخادم ملابسه في الحياة: السراويل من الجوخ الأبيض, وصديري أبيض فوقه حرملة لامعة وبذلة كولونيل والوشاح الأكبر لجوقة الشرف ونيشان التاج الحديدي وحذاء طويل بمهاميز صغيرة, ولما لم يستطيعوا وضع قبعته علي رأسه لضيق المساحة وضعت فوق ساقيه, وإلي جانبها علم عليه صورة النسر, وقطع من جميع النقود التي صكت في عهده وفوقها صورته, وأدوات مائدته وسلاحه الخ.. وتم وضع التابوت في صندوق من الصفيح لحمت جميع أطرافه ثم داخل صندوق آخر من الرصاص المغلق أيضا باللحام, وصندوق رابع من خشب الكابلي الذي ختم وسمر ليخرج في مشهد جنائزي يودعه ألفان وخمسمائة جندي, وما أن أهيل التراب حتي اندفع الجمهور علي شجرة الصفصاف التي تظلل القبر وتنازعوا أوراقها للذكري.. وسافرنا إلي الإمبراطورة ماري لويز الزوجة التي تسلمت خطابي وفيه طلب من نابليون بونابرت وهو علي فراش الموت أن تخصص لي راتبا سنويا مدي الحياة قدره ستة آلاف فرنك نظير خدماتي في جزيرة القديسة هيلانة مع رغبته بأن تلحقني كطبيب وجراح في قصرها, فما كان منها إلا قولها علي لسان الكونت نيبرج بأنها ستقوم بعرض الأمر علي جلالة والدها ملك النمسا, ويومها سألت الكونت عن الأمير الصغير فأجابني بأنه بصحة جيدة وأنه متوقد الذهن.. ولما كان في الأفق قضايا ومحاكم وأخذ ورد وباعثا علي القيل والقال في مسألة مكافأتي عدت إلي عيادتي مكتفيا وراضيا بالماسة التي منحتها لي الأم لاتيسيا بعدما استعادت بالتفصيل الممل كل ما كان من أمر رحيل ابنها.... وكان خبر موت نابليون لم يصل إلي فرنسا إلا بعد حدوثه بشهرين لصعوبة الاتصال ولتواري الاسم عن أذهان الجماهير طوال ست سنوات أصبح فيها شبحا بعيدا يعيش أسيرا في آخر الدنيا بحيث أن النبأ الذي وصل إلي باريس في يوم الجمعة6 يوليو1821 ولم ينتشر إلا في صباح اليوم التالي تلقاه الناس كما يتلقون خبرا لا يثير ضجة كبيرة, كفيضان نهر أو ثورة بركان أو ولادة شمبانزي برأسين, ولما رفع الدوق دي ريشليو خبر وفاة بونابرت إلي مولاه الملك لويس الثامن عشر في سان كلود لم يتأثر الملك كثيرا بل قال له علي سبيل استئناف الحديث: من فضلك ناولني الغليون..!!.
وظلت ماري لويز في حفل تأبين زوجها نابليون جالسة علي مقعدها الخاص شاردة الفكر وقد أسدلت فوقها قناعا طويلا ليغطي وجهها وجسدها عن الأبصار ويحجب حملها في الشهر الأخير فقد ولدت ابنا من الكونت دي نيبرج بعد توقيت تسعة أيام لا غير وكان ثالث الأولاد غير الشرعيين الذين أنجبتهم لبلاط النمسا!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.