لو أن المشهد السياسي في مصر من25 يناير2011 إلي اليوم يتلخص في كلمة واحدة فليس من كلمة أنسب من تلبيخ. والكلمة لها أصل في الفصحي لا يختلف عن المعني الشعبي الدارج. فهي من الفعل الثلاثي( ل ب خ) ومنه اشتقت عدة كلمات من بين معانيها الشتم والضرب والقتل واللطم والخلط في الكلام والاحتيال بهدف الأخذ. وأظن أننا فعلنا كل هذا وأكثر. دائرة تلبيخ متكاملة دخلنا ودرنا مرارا فيها, ولم نأت لأكثر من عامين بفعل جماعي واحد صحيح يكسرها لنخرج منها بسلام. وها هي الدائرة تلف بسرعة, ومن المتوقع أن تبلغ أقصاها في30 يونيو المقبل. والمشكلة ليست فقط فيما سيحدث في30 يونيو وإنما فيما قد يحدث في اليوم التالي. فهل كل الأطراف العالقة في الدائرة أعدت نفسها لما بعد30 يونيو؟ لا أعرف. ما أعرفه أن الجميع رفع سقف المطالب. حملة تمرد وجبهة الإنقاذ والقوي المدنية وملايين المصريين قرروا أن يكون30 يونيو تاريخا تسحب فيه الثقة من رئيس الجمهورية, ومقدمة لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. أما الطرف الآخر العالق في نفس الدائرة ويضم قوي إسلامية وحزب حاكم ومؤسسة رئاسة فقد رفع كذلك سقف المعاندة. تارة بالاستخفاف من قيمة التوقيعات التي جمعت. وتارة أخري بالوعيد بملء الميادين بالأنصار قبل أن تتجرأ تمرد وتملؤها بمؤيديها. احتمالات العنف قائمة في وبعد30 يونيو, ولا بد من عمل كل ما يمكن لمنعها. ليس بالإجراءات الأمنية الصارمة. فالأمن كما القضاء كما مرافق كثيرة في مصر شلتها السياسة. السياسة هي التي يجب أن تشعر بالخجل في حق هذه المؤسسات وحق كل المصريين. كل السياسيين العالقين في دائرة التلبيخ مسئولون لأنهم يعلقون الوطن معهم في تلك الدائرة. فالسياسي لا يرقي لمقام رجل الدولة إلا إذا فكر مليا في عواقب الأمور وتحسب من اليوم التالي. ماذا مثلا لو نزل الملايين إلي الشوارع في30 يونيو ثم انفضوا في المساء ولم يتبق سوي بضع مئات؟. ألن يعتبرها الإخوان هزيمة لتمرد والإنقاذ والقوي المدنية وإعلان شعبي بموت الآخر السياسي؟ علي النقيض, ماذا لو قرر عشرات الآلاف أن يعتصموا ويبيتوا في الشوارع بعثا لثورة جديدة حددوا هدفها بتنصيب رئيس جديد؟ ألن يفتح هذا باب العنف علي مصراعيه؟ سيناريوهات عديدة تعيسة تلوح في اليوم التالي ما لم يبدأ الطرفان المستقطبان في التراجع. فالكل يرفع السقف ويطلب النزال. وهذا أسوأ أشكال العمل السياسي. لا يزال هناك مخرج يحتاج الإخوان والقوي المحتجة عليهم إلي النظر فيه. أما الإخوان ففي أمس الحاجة إلي التواضع وأن يروا حجم الثقة التي فقدها الناس فيهم. وإلا كيف جمعت تمرد أكثر من ضعفي الأصوات التي حصل عليها الرئيس مرسي في الانتخابات وكلها أصوات صحيحة وموثقة لا يطالها شك أو تثريب. ليس أمامهم إلا حل واحد لكني للأسف لا أري أنهم سيفعلونه بعد كل ما فعلوه. عليهم أن يوسعوا الدائرة ويتخلوا عن حوارات الظلام ليعودوا فينفذوا اتفاق فيرمونت بحذافيره. ولأن الأمل في ذلك ضعيف فدائرة التلبيخ ماضية. علي الطرف الآخر فإن تمرد و الإنقاذ والملايين الغاضبة قامت بعمل سياسي بين الناس أشبه بقياس للرأي العام. وما جمعته إلي الآن من توقيعات يبين أين يقف قطاع هائل من الرأي العام. لكن رفع تمرد للسقف وإصرارها علي النزول في30 يونيو لإسقاط النظام ليس هو الخيار الذي سيخرجنا من دائرة التلبيخ بل طريق قد يعيدنا للدوران فيها من جديد. فالعقل السياسي لتمرد ما زال يفكر في منصب الرئاسة بطريقة فرعونية وأن التغيير في مصر لن يحدث إلا بتغيير اسم من يشغل هذا المنصب. والمنصب لا شك شديد الأهمية لكنه ليس المنفذ الوحيد لتصحيح المسار. تمرد قد تحرج نفسها لو انفض عنها المتظاهرون بعد الثلاثين من يونيو فلا يبقي زخم يساندها. أو قد تحرق نفسها والبلد معها لو أن حشودها المعتصمة واجهتها حشود مضادة. كان الأوفق أن تجعل تمرد من يوم الثلاثين من يونيو مجرد احتفالية. نعم احتفالية ولبضع ساعات فقط تعلن من خلالها أن أهداف الحملة قد تحققت بالكامل بكشفها بالأرقام وتوقيعات رسمية أن الرأي العام المصري لم يعد يطيق الحكومة الحالية ولا أداء مؤسسة الرئاسة وما ارتكبته من أخطاء قومية جسيمة. احتفالية تعلن تمرد فيها أو في اليوم التالي لها مباشرة عن أنها وكل القوي السياسية الملتحمة معها قرروا خوض الانتخابات البرلمانية, وأن الزخم الشعبي الذي خرج ليحتفل معها في الثلاثين من يونيو ليس إلا جزءا من الكتلة الناخبة التي ستقف معها في الانتخابات البرلمانية. انتخابات من مصلحة مصر التعجيل بها. فمصر ليست مؤسسة رئاسة فقط لا يأتي التغيير إلا من خلالها, وإنما بها مؤسسة برلمانية شديدة الاهمية يمكن أن تتحول لو انتبهت المعارضة إلي أهم مؤسسة للتغيير. لو أخذت تمرد بهذين التصورين: أ( أن يكون الخروج احتفاليا وليس تعبويا, وب أن تعلن عن خوض الانتخابات البرلمانية بدفع هذه الحشود) لوضعت الإخوان المسلمين تحت ضغط هم الذين جلبوه علي أنفسهم. بجانب ذلك قد يكون الإعلان عن تأسيس حزب جديد في الثلاثين من يونيو يضم الشباب الذين ظلموا إلي الآن بمثابة ميلاد لقوة سياسية غائبة يمكن لزخم هذا اليوم أن يساعدها في تعويض ما ضاع منها لأكثر من عامين. اليوم التالي في مصر بعد30 يونيو لن يستقيم كما لم يستقم اليوم التالي بعد11 فبراير2011 لو فكر أحد في أن يقصي الإخوان أو يتخطي القوي المدنية. مصر, علي الأقل لمرحلة لا تقل عن خمس سنوات, لن تنجح بفريق واحد. موازين القوي والمصلحة تفرض علي الجميع أن يتعايشوا وإلا فاليوم التالي ل30 يونيو لن يكون إلا استنساخا لكل ما رأيناه منذ11 فبراير2011 إلي اليوم, إن لم يكن أسوأ. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات