الإسراء والمعراج لم يكونا إلا تكريما ربانيا لا نظير له لمحمد صلي الله عليه وسلم, ومع التكريم العظيم توجيه رشيد, يضع بذور المستقبل, وتربية سامية تزكي الخلق, وتلهب الكفاح, وتنشر الأمن والخير والعدل والطهر والسلام, وتقدم جرعات مخلصة من فيض الإيمان, ونفحات مباركة من نور التقوي والعمل الصالح. لقد مات أبو طالب عم الرسول صلي الله عليه وسلم, الذي كان يحميه من بطش المشركين الظالمين, وماتت زوجته خديجة التي كانت خير سند وخير عون وسكن, يداوي ما يلقاه من الأذي... وإيذاء الكفار للمسلمين, وتعرض الرسول لعواصف عاتية من البغضاء والافتراء والجحود والنكران, والبغي فخرج المصطفي صلي الله عليه وسلم إلي الطائف يدعو إلي الإسلام, فسلط الكفار سفاءهم يسبونه ويرمونه بالحجارة, ولم يكن أمامه إلا الله سبحانه, يرفع أمره إليه, ويشكو ظلم أهل الأرض ويقول: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني علي الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين. وأنت ربي إلي من تكلني.. وعاد الرسول إلي مكة, منتظرا المدد والفرج, واستجابت السماء, وجاء المدد من ربه الذي لجأ إلي نور وجهه بالإسراء والمعراج, حيث أسري به من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, بقوة الله سبحانه وقدرته في ليلة واحدة, وذلك أنه ركب البراق يشق عنان السماء في رحلة عجيبة, بدأت من المسجد الحرام بمكة إلي المسجد الأقصي بالقدس, ثم كان المعراج عقب هذه الرحلة, ليرتفع في طباق السموات حتي الوصول إلي مستوي تنقطع عنده علوم الخلائق, ولا يعرف كنهه أحد, فقد صعد إلي السماء السابعة, وإلي سدرة المنتهي, وعاد بعد رؤية آيات الله وتكريمه له إلي المسجد الحرام بمكة. إن الرحلة المباركة, وما فيها من فتح أبواب السماء, وتدفق النفحات, ورؤية الآيات العظيمة لله, والاحتفال المجيد بالرسول صلي الله عليه وسلم, وإجلال منزلته الرفيعة تؤكد أنه إذا كان أهل الأرض قد تخلوا عنه, فإن ربه قد احتفل به في ملكوت السماء احتفالا لا مثيل له, علي الرغم من الشدائد والمشقات التي عاني من قسوتها, لأن المولي عز وجل دائما مع الذين اتقوا والذين هم محسنون, يكرم المناضلين المخلصين الصابرين, وهو يود أن يطمئن الرسول الكريم, ويدرك أن عناية الله معه, وأن نصيبه من رضوانه جزيل عظيم, أما مكانته فقد فاقت البشرية كلها, وتقدمتها إلي تفضيل لم يعطه الله سبحانه أحدا من خلقه, إنه بين الأنبياء والرسل معظم مميز, الكل يرحب به ويشهد له بالصلاح, حين جمعهم الله, ليستقبلوه, ويصلي بهم إماما, مؤكدا أن رسالته تحفظ وحدة دينية سامية, تقوم علي احترام المباديء المشتركة, وتصون تعاليم الهدي, ان الجمع بين المسجد الحرام والمسجد الأقصي يعني دعم الوحدة بين المسلمين, ويطالب بتحرير المسجد الأقصي من أيدي الصهاينة الغاصبين. والواقع أن الاسراء والمعراج درس رائع للمناضلين والمخلصين, فإن الله ينصر من ينصره, ويعز جنده, ويهزم الظالمين, والمطلوب من المناضلين المجاهدين في سبيل الحق أن يثبتوا, وأن يعلموا أن صلابة يقينهم وروعة نضالهم دعائم لا يستهان بقوتها, فالعاقبة لهم, ولهم في رسول الله أسوة حسنة, لقد رأي من الآيات ما يذهب عنه الضيق والحزن, وخلال المعراج رأي الجنة ورأي النار وما فيهما, ومنحه ربه أشياء فوق مقدور عقول البشر, وفوق مقدور تصور البشرية كلها, ورأي الآية الكبري في السماء, وهي المرحلة الأخيرة للمعراج, التي لم يقدر عليها جبريل, ولا أحد من الملائكة, وانفرد الرسول بها, ثم فرضت الصلاة, وهي أعظم هدية نالها في الرحلة المباركة, فهي الصلة بين السماء والأرض, تربط العبد بربه, وتقدم له الفلاح والرشاد والطهر, ومنهج البناء السليم الشامخ الذي يتضمن كل معاني الصحة والسلامة والفوز, وينهي عن الفحشاء والمنكر, ويجمع أحكام الدين كله, ويقرر أنها إن صلحت صلح الدين كله, ولم يقف الأمر عند هذا الحد, فالمشاهد التي رآها الرسول فيها الكثير من التوجيه والعبر والتربية الرائعة, والمجال لا يتسع لذكرها, وحسبنا أن نشير إلي أنها ترفع منزلة المجاهدين في سبيل الله, وتحذر المتكاسلين عن الصلاة وخطباء الفتنة الذين يقولون ما لا يفعلون. أما الحلال والحرام, فما شاهده المصطفي يدل علي أن الحلال طيب طاهر, وأن الحرام فتن ؟ أما الاخلاق, فهي الفضائل والمكارم والمحاسن, تدعو إلي الإيمان والتقوي, والعمل الصالح, وهل هناك أطيب وأحسن من ذلك؟!. فسلام علي الإسراء والمعراج, وعلي المصطفي الهادي المبشر النذير, الداعي إلي الله بإذنه والسراج المنير, وعلي الصلاة التي فرضت, سبيل الفلاح, وزينة التقوي والصلاح. لمزيد من مقالات د. حامد محمد شعبان