تناول مقال الأسبوع الماضي أهمية المقال الافتتاحي، وتعريفه، وأنواعه، وتقسيماته، وطرق كتابته، وشروط نجاحه. ويتناول هذا المقال معالم الضعف التي يجب تجنبها في المقال الافتتاحي الناجح، والمقومات التي يجب توافرها في كاتبه، مذكرين بأن الافتتاحيات الجيدة لابد أن تتناول موضوعات مهمة، وأن تحتوي على معلومات وحقائق، وأرقام وتواريخ، وشواهد، وأدلة، وخلفيات للأحداث، وتنبؤات بالمستقبل، وآراء رصينة. لقد كان المقال الافتتاحى دومًا صاحب القيادة والزعامة في المجتمعات الناضجة، لكونه وسيلة توجيه وإرشاد وتكوين للرأى العام، ولا يزال يؤدي هذا الدور، خاصةً فى صحافة الرأى الغربية، مثل صحف : تايمز البريطانية، ولوموند الفرنسية، ونيويورك تايمز الأمريكية، وغيرها. وهكذا تُؤخذ افتتاحيات بعض الصحف كدليل على اتجاه الحكومات فى دولها. وكان ذلك هو الشأن بمصر في فترة الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات عندما كان الصحفي محمد حسنين هيكل يكتب مقاله الافتتاحي فى الأهرام، تحت عنوانه الشهير : "بصراحة". وكثيرًا ما تعقد الصحف الكبرى اجتماعًا خاصًا كل يوم، يتعلق بطبيعة المقال الافتتاحي القادم، ومضمونه، ومحاوره، قبل الشروع بكتابته، ضمانًا لجدارته، وموضوعيته. من علامات الضعف من معالم ضعف الافتتاحية تقديمها بطريقة القصة الخبرية، وفي ههذ الحالة تنطوي على مقدمة تقليدية، وسرد للخبر، ثم تعليق مقتضب عليه، بخفة وسطحية، ومدح أو قدح. هذه الافتتاحية فقيرة في صنعتها، وواهية في تأثيرها، لا سيما أ القاريء العادي يتمتع غالبًا بالاستقلال الفكري، والقدرة على تكوين رأي شخصي، في كل شيء تقريبًا. من علامات الافتتاحية الضعيفة أيضًا عدم تركيز الحديث في موضوع واحد، والتطرق إلى أكثر من موضوع، والاستشهاد بتصريحات عشواء من هنا وهناك، مما يسبب للقارئ نوعًا من الاضطراب الفكري، فينصرف عن الافتتاحية، دون أن تصل إليه أي رسالة، في ظل ما تعانيه من عشوائية وركاكة. وأسوأ شئ في أي افتتاحية : الشطط في الرأي، والتعصب لوجهة نظر واحدة، إذ المطلوب الإنصاف في العرض، والموضوعية في التناول، والاعتدال في الطرح، والابتعاد عن الانحياز. ومن السلبيات الوخيمة في الافتتاحيات كذلك : الوقوع في التناقض بين فقراتها وأفكارها، وإيراد رقم غير دقيق، أو معلومة غير سليمة، أو مقولة غير دقيقة، أو الاستشهاد بتصريح قديم جدًا، أو في غير موضوعه، أو الإغراق في التفصيلات المملة، أو استخدام كلمات حادة أو ملتبسة، أو الإساءة إلى أشخاص أو دول، أو الوقوع في أخطاء معلوماتية أو لُغوية، أو سوء استخدام علامات الترقيم، برغم أنها حِلية الكتابة، أو كبر حجم المقدمة، حتى تكاد تعادل حجم جسمها. ومن علامات ترهل الافتتاحية أيضًا تُخمتها بعلامات الاستفهام والتعجب والنقاط المتتابعة، والمقدمة الاستفهامية، والتعابير الاستنكارية، والكلمات الغامضة، والمفردات التي لا تتلاءم مع السياق. وبالنسبة للعنوان يجب أن يُراعي فيه أن يكون محدداً، دالاً على الموضوع، وبعيداً عن العمومية والإنشاء. ولا بأس بالاستعانة في الافتتاحية ببعض الفنون البلاغية كالاستعارة، والكناية، والتشبيه، ولكن في حدود معينة، تستهدف تقوية الافتتاحية، وجعلها أكثر جاذبية، وتأثيرًا. الكاتب الناجح عملة نادرة يمثل كاتب الافتتاحية الجيد عملة نادرة في هذا الزمان، وهناك كتاب مشهورون على المستوى الدولى بإجادتهم لها، مثل : جون أدامز، وجوزيف وارن، ورالف أمرسون، والتر لبمان، وصمويل كوبر. أما فى مصر، فممن كتبوا المقال الافتتاحي الجيد كل من : محمد عبده، وجمال الدين الأفغانى، ومصطفى كامل، وأحمد لطفى السيد، وعبد القادر حمزة، وعبد الله النديم، وإبراهيم المازنى، وأديب إسحاق، وإحسان عبد القدوس، وأنيس منصور، ومحمد حسنين هيكل، وموسى صبري، وأحمد بهاء الدين، ومجدي مهنا، وعباس الطرابيلى، ومصطفى شردي. وكاتب الافتتاحية قد يكون هو رئيس أو مدير تحرير الجريدة، أو أحد أعضاء هيئة أو مجلس تحريرها، أو أحد كبار كُتابها. وتلجأ صحف معاصرة إلى متخصصين وخبراء في فروع مختلفة من خارج الصحيفة في كتابة الافتتاحية، بحسب طبيعة المقال. وتقوم الصحيفة هنا بإعادة صوغ المادة المرسلة إليها في قالب جذاب. ولكاتب الافتتاحية أن يستعين بالكتب والوثائق، ومحركات البحث على شبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، وكذلك مصادر المعلومات بالصحيفة كالمكتبة والأرشيف، فضلاً عن قراءاته ومعلوماته التى استطاع اكتسابها خلال ثقافته الشخصية، وحياته المهنية، وتجربته العملية. ويجب عليه أن يمنح أولوية للتصدي في الافتتاحية التي يكتبها للمشكلات الكبرى للمجتمع، كالصحة والتعليم والإسكان، ورعاية الفقراء والتأمين الاجتماعي..إلخ، وأن يساعد القراء على فهم حقيقة الأحداث ودلالتها، وأن يقدم اقتراحات، ووجهات نظر تساعد القراء على فهم القضايا المختلفة، الأحداث، وتكوين آراء بناءة بشأنها. وعليه أيضًا أن يحسن اختيار فكرة الافتتاحية من بين عشرات الأخبار والأحداث، وأن يتحلى بالشجاعة في طرح موضوعه، وأن ينحي ذاته جانبًا، فلا يبدي رأيه الخاص أبدًا، وألا يتطرف في اتجاهه، وأن يكون دقيقًا في اختيار كلماته، وألا يلجأ إلى إطلاق الأحكام والتعميمات، وأن يكون موضوعياً في عرض الحقائق، متوازنًا في رأيه، متسمًا بالوسطية والاعتدال، متقنًا لفن المواءمة السياسية. كما يجب إجادة ضرب الأمثلة، وتقديم الشواهد، وتلخيص الأفكار، وإثراء الخيال، واختيار أفضل ما توفره اللغة من أساليب بلاغية، مع تضمين المقال كل فكرة من شأنها أن تسهم في دعم النتيجة التي يريد إقناع القاريء بها. إن كاتب الافتتاحية الناجح يجب أن ينفذ إلى مغزى الأخبار، ويتمتع بنظرة موضوعية، وذائقة تحليلية للأحداث الجارية، وذاكرة تاريخية تتيح له الربط بين الماضي والحاضر، وقدرة فائقة على استبصار المستقبل، وثقافة موسوعية تُجنبه استخدام اللغة المسيئة، وكتابة شيء يخالف ضميره، وهكذا يحرص على أن تكون المعاني التي يقصدها واضحة، وألا يدخل القارئ في تخمينات ليس لها معنى، فضلا عن أنه يشبع مقاله بأفكار فيما بين السطور، الأمر الذي يزيد متعة القاريء، ويجعل الافتتاحية "بهجةً للقارئين". وفي هذا الصدد، يقول جافري بارسونز مستشار جهاز تحرير الافتتاحيات في صحيفة "نيويورك هيرالد تريبيون" :"كلما زاد أساس المعرفة عند الكاتب متانةً، ازدادت مقدرته على استنهاض الفكر في أي موضوع، وجذب انتباه جمهوره، وانعكس على ما يكتبه تحليلًا للأخبار، وما وراءها، وما تحمله من مغزى"، منبهًا إلى أن الكاتب الجيد يخاطب عبر المقال الافتتاحي عددًا أضخم بكثير مما يصل إليه أي مدرس أو فيلسوف أو ناقد من الناس. نصائح أخيرة لافتتاحية احترافية الفكرة هي العنصر الأول الرئيس في المقال الافتتاحي إذ يجب أن تكون مثيرة لاهتمام القارئ، ويليها في الأهمية: عنصر الحقائق والشواهد المؤيدة للفكرة، وثالث العناصر: النتيجة أو الخلاصة التي ينتهي إليها المقال. ويتساءل البعض عن الطريق الأمثل لاحتراف كتابة الافتتاحية، وذلك يتحقق بوسائل عدة منها : الممارسةَ المستمرة لكتابتها، والتدرب العملي على تحريرها، مع القراءة الواعية للافتتاحيات الجيدة والسيئة بالصحف الصادرة كل يوم، ووضع اليد على معالم الجودة والسوء فيها، وتطوير أسلوب خاص بالكتابة، والابتعاد عن التقليد والرتابة، وانتهاج طرائق الإبداع والحداثة. والافتتاحية الناجحة تتعرض للمراجعة على يد كاتبها أكثر من مرة، وأحيانًا: يلجأ إلى تغيير أي كلمة فيها، يشعر بأنها غير مناسبة أو ضعيفة، مع التقديم والتأخير، والتعديل والتجويد، والتأكد من سرعة قراءتها بسهولة ويسر. وهنا يجب التنبيه إلى أمر مهم هو أن المحرر قد يُضطر إلى تغيير الافتتاحية متى رأى أن الظروف والأوضاع تحتم ذلك. ولعل أصعب ما في كتابة المقالات الافتتاحية هو :وضع الكلمات الأولى على الورق، وتركيز فكرة المقال في زاوية محددة، لاستيفاء تناولها بعمق، وشمول، علاوة على إغراء القارئ بمتابعة المقال. وبصفة عامة، تكون اللغة في المقال الافتتاحي قوية رصينة ومتماسكة. وفي جميع الأحوال يحافظ المحرر على وحدة فكرة المقال، من البداية للنهاية، ويبدي موقفًا واضحًا من القضية المطروحة، ويقيم بناء عقلانيًا راشدًا؛ يرتب الوقائع والأدلة، ويفند الحجج المخالفة، والآراء المضادة، ولا يترك المشكلة التي استعرضها دون حل، حريصًا على التعمق الفكري الرأسي، وتجنب الكثرة الأفقية (رص الكلمات).