في أحضان الشريعة الإسلامية, تبلورت في بلادنا مدرسة قانونية, جمعت بين فقه الشريعة الإسلامية وبين ثروة القانون الغربي في الصياغة والتقنين. وكان الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا,3131 1931 ه5981 1791 م] واحدا من أبرز أعلام هذه المدرسة, التي تصدت لمحاولات تغريب القانون وعلمنته في بلادنا, وسعت إلي تجديد الفقه الإسلامي, وإلي بعث الشريعة الإسلامية لتتخطي أعناق القرون, ولتكون المصدر الوحيد للقانون في بلاد الشرق الإسلامي, وليكون لها الحضور اللائق بها في الميادين الدولية والمؤتمرات الدولية التي تقارن بين المنظومات العالمية للقوانين. كان بعث الشريعة الإسلامية, وتجديد الفقه الإسلامي هو حلم حياة السنهوري, والمشروع الفكري الذي لم يغادر حمل أثقاله علي امتداد سنوات عمره... وعندما ذهب إلي باريس في عشرينيات القرن العشرين لنيل الدكتوراة, كان تضلعه في فقه الشريعة الإسلامية السبب الذي جعل أساتذته يطلقون عليه: الإمام الخامس!... ولقد أسقطت الخلافة الإسلامية في ذلك التاريخ, وصدر كتاب, الإسلام وأصول الحكم] سنة5291 م الذي أهال التراب علي مبدأ الخلافة, وعلي تاريخها, والذي سعي إلي علمنة الإسلام.. ويومها تطوع السنهوري رغم تحديات المناخ الفكري الغربي المعادي للخلافة, والمدافع عن علمنة الإسلام تطوع فقدم دكتوراه ثانية عن فقه الخلافة الإسلامية, وكيف تصبح عصبة أمم إسلامية, تراعي مستجدات القوميات والوطنيات والقطريات مع وفائها بمقاصد الخلافة الثلاث:1 وحدة الأمة2 وتطبيق الشريعة3 وتكامل دار الإسلام... كما قام بالرد علي كتاب الاسلام وأصول الحكم تحت عنوان: رأي شاذ!.. ولقد تبوأ السنهوري باشا, علي امتداد حياته القانونية والدستورية والقضائية, مكانة جعلته حجة لدي كل المشتغلين بالقانون, فهو الوحيد عالميا الذي وضع القانون المدني وشرحه.. وهو الذي وضع المقومات القانونية والدستورية للعديد من الدول العربية مصر.. والعراق... وسوريا... والكويت.. والإمارات.. والسودان... وليبيا. وإذا كان هذا الجانب من إنجازات السنهوري معروفا ومشهورا... فإن الوجه الإسلامي لهذا الفقيه القانوني لم يأخذ حقه الكامل عند كثير من القانونيين.. بل ولا الإسلاميين!.. لقد كونت إسلاميات السنهوري مجلدات نافست مجلداته في القانون... ويكفي في هذا المقام أن نقدم عددا من صياغاته الفكرية التي تلفت الأنظار إلي هذا الوجه الإسلامي عند هذا الفقيه العظيم.. لقد قال: إن الشرق بالإسلام, والإسلام بالشرق.. إنهما شيء واحد, وإذا تحدثت عن أحدهما فكأنني أتحدث عن الآخر والشريعة الإسلامية هي شريعة الشرق, منتزعة من روح الشرق وضميره, أوصي بها الله إلي عبد شرقي, في أرض شرقية... إنها شريعة الشرق ووحي أحكامه... وإن دول الشرق لا يمكن أن تجتمع علي شيء واحد غير دين الإسلام... وإذا كان السنهوري باشا قد علق بعث الشريعة الإسلامية كي تتخطي أعناق القرون, لتصبح المصدر الوحيد للقوانين في الشرق, علي تجديد الفقه الإسلامي وتقنينه.. بعد اشادته بالتقنين الذي أنجزته الدولة العثمانية لفقه معاملات المذهب الحنفي في مجلة الاحكام العدلية سنة9681 م وثنائه علي التقنين الذي أنجزه في إطار المذهب الحنفي محمد قدري باشا ... لقد شاء الله لأحد تلامذة السنهوري باشا الأستاذ الدكتور صوفي أبو طالب,3431 9241 ه5291 8002 م] أن يقود إنجاز هذا المشروع العظيم تقنين الفقه الإسلامي بمذاهبه الموثقة والمعتمدة من خلال العمل الكبير الذي تبناه مجلس الشعب المصري والذي استغرق إنجازه أكثر من أربعين شهرا من ديسمبر سنة8791 م إلي يوليو سنة2891 م والذي قامت به ثماني لجان, ضمت ما يقرب من مائة عضو من كبار فقهاء الشريعة والقانون من بينهم كوكبة من رجال القانون الأقباط ولقد استعانت هذه اللجان في عملها بشيوخ الأزهر وعلماء الإفتاء, وعمداء وأساتذة الشريعة والحقوق, وأركان الهيئات القضائية ووزراء العدل والأوقاف. لقد تحققت أحلام السنهوري في تقنين الفقه الإسلامي.. وتحقق مطلبه بأن يعمل في هذه الحركة الاصلاحية إلي جانب المسلمين غيرهم من الشرقيين غير المسلمين, من القانونيين والاجتماعيين.. وفي الجلسة التي عقدها مجلس الشعب في أول يوليو سنة2891 م تحدث القانوني القبطي الأستاذ اسطفان باسيلي الذي أمضي في العمل القانوني سبعة وخمسين عاما عن تقنين الشريعة الإسلامية قانونا للامة بأديانها المختلفة فقال: باسم الله الوهاب.. إني إذ أتحدث الآن, وفي هذا الموضوع بالذات, فإنني أشعر أن التاريخ هو الذي يتكلم, لشيخوختي أولا, ولانني عشت في العمل القضائي سبعة وخمسين عاما محاميا, ولقد عرفت بمضي المدة أن الشريعة الإسلامية هي خير ما يمكن أن يطالب بها لا المسلم وحده, بل وأيضا المسيحي, تصفيق].. لأن بها كل ما يرضينا. والعهدة النبوية الموجودة في دير سيناء, والمكتوبة بخط الإمام علي, تؤكد الحفاظ علينا في كل ما لنا من حقوق وما علينا من واجبات.. والقاعدة الشرعية: أمرنا بتركهم وما يدينون به. واليوم, مع هذه البهجة التي أراها, أحس كأنه يوم دخول الإسلام إلي مصر, اليوم يستكمل كل ما كان ناقصا وواجب الاكتمال, فيما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية وما فيها من مصادر الرحمة الكثير بالنسبة للمواطنين. هكذا تحققت آمال العلماء العظام علماء الدين, وفقهاء الشريعة والقانون من الطهطاوي.. إلي قدري باشا.. إلي الافغاني.. ومحمد عبده.. والسنهوري باشا الذين تصدوا لتغريب القانون وعلمنته في بلادنا... والذين رفضوا دعاوي تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني, ودافعوا عن استقلال هذه الشريعة ذات المصدر الإلهي كمنظومة قانونية مستقلة ومتميزة وممتازة.. فكتب الله النصر المبين لهؤلاء العلماء المجاهدين العظام.