جميل أن تقوم الحكومة بوضع الخطط الطموحة لتنمية البلد أو جزء منها, ليكون قاطرة لباقي الأجزاء, ولكن الأجمل هو أن تكون التنمية وفق معايير الشفافية والاعتماد علي الذات ولا تسمح برهن الأرض أو فقدان السيادة, أو الانزلاق إلي حالة استعمارية جديدة تحت رحمة شركات عابرة للحدود, أو دول طامعة في مصر وأرضها بحكم أن لديها أموالا طائلة, أو طموحات كبيرة في لحظة تاريخية سوداء يعاني فيها المصريون قلة المال وغياب الحكمة والرشد. وجميل أيضا أن تبني علي ما تم البدء فيه من قبل ولو تعثر جزئيا, والأجمل أن تعلن ذلك علي الملأ حتي تحصل علي المصداقية من قبل شعبك. فالكل يعرف أن تنمية إقليم قناة السويس وتعمير سيناء مطروحة علي مصر كلها منذ أن تم تحرير آخر حبة رمل في سيناء1982, وكانت هناك خطط ودراسات ومشروعات طموحة جدا, بدأ بعضها وتعثر احيانا, وانجز بعض منه, وأصبح أحد مقومات الاقتصاد المصري متمثلا في توسيع وتعميق قناة السويس نفسها ومشروعات شرق التفريعة وميناء سفاجا, ومنطقة غرب السويس, وخليج السويس ووادي التكنولوجيا في شرق الاسماعيلية. وبالتالي فإن المطروح فعليا هو البناء علي ما سبق عبر تحسينه ووضعه في إطار منظومة تنموية تكاملية مع توفير آليات أفضل إداريا وتمويليا وتسويقيا. وتلك بدورها بحاجة إلي الخضوع إلي قوانين الدولة, وليس الخروج عنها, وبحاجة إلي المكاشفة والمصارحة وليس إلي التعتيم والعمل بليل ومفاجأة المصريين بكوارث تشريعية او اقتصادية اخري لا يحتملها الوطن بأي حال. باختصار أن المطروح لتنمية قناة السويس لن يبدأ من الصفر, بل علي الأقل من نسبة20% كما قال بذلك د. وليد عبد الغفار منسق مشروع محور قناة السويس ورئيس لجنة النقل بحزب الحرية والعدالة, وهي بنية اساسية ومشروعات تعمل بالفعل وصرفت عليها الحكومات السابقة ما يقرب من مائة مليار حنيه مصري, وتشمل رصيف الحاويات- طوله2400 متر- وساحات تخزين وشركات تنمية صناعية, ووادي التكنولوجيا بالإسماعيلية الذي تم صرف50 مليون جنيه علي البنية التحتية الخاصة به, والحوض الأول بميناء السويس, وشبكة الطرق في سيناء والإنفاق والكباري التي تربط بين سيناء والوادي كنفق احمد حمدي وكوبري السلام العلوي في القنطرة, وترعة السلام. باختصار أن تنمية اقليم القناة هي امتداد وتطوير لما سبق, ولن يبدأ من الصفر, وبالتالي فمن الصعوبة بمكان تصور أننا أمام ميلاد جديد منسوب وحسب للنظام الراهن. ولعل الأجمل هنا أن يكون هناك حوار مجتمعي تتوافر فيه المعلومات كلها ليشارك المختصون في الحوار ويشهد, الشعب بما يحدث, ويقتنع الوطن بقيمة ما سيتم بناؤه سواء كان استكمالا لمشروعات سابقة أو بداية لمشروعات جديدة تماما. إن فقدان الشفافية والمشاركة الشعبية في هكذا مشروع كبير, يؤديان إلي غياب اليقين وثورة من الهواجس والقلق. خاصة ما يتعلق بتلك الهيئة المقترح لها قانون خاص لم يعرض بعد علي مجلس الشوري لكي تدير وتملك وتسيطر علي المشروع وموارده وأراضيه دون رقابة من مجلس نواب أو قوانين الدولة أو مؤسساتها الرقابية. والصحيح هنا بما يتعلق بالقلق علي هذا الوطن ووحدته أن تصريحات الفريق عبد الفتاح السيسي قبل يومين بأن ملاحظات القوات المسلحة قد أخذت بدون تردد بالنسبة لمشروع تنمية قناة السويس تفتح باب الأمل في وجود مؤسسات واعية بمعني وحدة الأرض وعدم التفريط فيها, في الوقت ذاته الايمان بأن القوات المسلحة تدرك قيمة الفعل التنموي في سيناء, وفي كل المناطق المصرية لما لذلك من أثر إيجابي علي التماسك المجتمعي وقوة الاقتصاد وقوة الردع للأعداء, وكل ذلك من شأنه أن يخفف مصادر القلق, لكن الامر ما زال بحاجة إلي وضوح أكثر وموقف لا يحتمل اللبس. فحين تتشكل هيئة ما لتصبح فوق الدولة ودستورها وقوانينها ورقابة شعبها وتتجاوز اختصاصاتها كل المؤسسات الأخري دون رقيب أو حسيب في منطقة قناة السويس ذات الحساسية للاقتصاد والامن القومي معا, فمن حق المصريين جميعا أن يشعروا بالمهانة وبالخوف علي بلدهم مهما كان الذي يقال عن عائد مادي أو اقتصادي منتظر أو متوقع, وقد يؤدي إلي بحبوحة من العيش للبعض. إن قناة السويس وما حولها تمثل في حد ذاتها ملحمة تاريخية عظيمة, وقيمة وجدانية ووطنية, وحالة رمزية تعني الانتصار علي العدوان والتضحية من اجل الوطن, وهي معان لا تقدر بكنوز الدنيا, ولا يقدرها إلا من يحب هذا الوطن ويؤمن بقيمته وقدره ويضحي بكل غال ونفيس من أجل سيادته وكرامته. لقد فصل الفقيه القانوني المستشار طارق البشري في نصوص القانون المعد من أجل الهيئة المقترحة لادارة تنمية إقليم قناة السويس في مقاله المنشور في الجمعة الماضية, وانتهي إلي ان القانون يجعل من تلك الهيئة المقترحة فوق كل سلطات الدولة, ويجعل اراضي الاقليم المحيط بقناة السويس ملكا خالصا لتلك الهيئة بدون رقابة من مؤسسات الدولة ويرسل رسالة إلي الخارج بأن إقليم قناة السويس وما فيه من موارد وشعب هو خارج عن نطاق وصلاحيات الدولة المصرية بمؤسساتها وقوانينها. وكأي مصري قرأ هذه الخلاصة وشعر بصدمة كبيرة وانتابه الخوف والقلق علي وحدة مصر الجغرافية والمؤسسية, من حقه أن يقول لا كبيرة لكل هذه الأفكار الصادمة وغير الوطنية والتي عبر عنها مشروع القانون, ومن حقه أيضا أن ينبه الذين وضعوا هذا التصور الخطير وغير الشريف بأن تنمية قناة السويس هي حق أصيل لكل من يعيش علي أرض هذا البلد, لكن هذا الحق لن يكون أبدا معبرا لتمرير أفكار شريرة تخرج ست أو سبع محافظات مصرية بمواردها ومواطنيها من سلطان الدولة المصرية وتجعلها تحت رحمة هيئة تتصرف في كل شيء وكأنه ملكية خاصة بها وحدها, بما في ذلك الحق في رهن هذه المحافظات لشركات دولية أو دول أخري تحت زعم جذب الاستثمارات والاموال. رسالتنا الأخيرة هي أن مصر ستظل للمصريين دون سواهم, وستظل مواردها وأراضيها خاضعة لسلطان القانون والدستور والمؤسسات, ومن يتصور غير ذلك, ويتوهم أنه قادر علي تفتيت هذا الوطن, فالأوفق له أن يبحث عن وطن آخر. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب