عرفت باستشهاد عماد عفت يوم السبت الماضي(21/71) وتأثرت عندما رأيت فضيلة المفتي الدكتور علي جمعة, وهو يتحدث عن عماد بوصفه الابن الذي لم يرزقه الله به, فقد كان يراه أخا لبناته الثلاثة اللاتي أدعو الله له أن يبارك له فيهن, وفي بقية أبنائه في العلم, وبلغ بي التأثر مبلغه, وأنا أري المفتي يحاول جاهدا منع نفسه من البكاء تأثرا بوفاة ابنه في العلم بهذه الطريقة الوحشية. وتذكرت حالي يوم أن بلغني مقتل ابني في العلم حازم شحاتة في الحريق الذي نشب في مسرح قصر ثقافة بني سويف, فأودي بحياته وحياة تلميذي الآخر محسن مصيلحي ومعهما أعزاء آخرون, قتلهم إهمال حارس غبي أغلق عليهم قاعة المسرح, وتركهم ليجلس في مقهي مع أصدقاء له, وبدأت كارثة الحريق باحتراق ديكور قابل للاحتراق من شمعة مشتعلة, أسقطها أحد الأطفال الذين كانوا يؤدون دورا في إحدي المسرحيات, وكانت مواد الديكور قابلة للاشتعال السريع, فأحالت الصالة الصغيرة غير المجهزة حتي لأن تكون مسرحا إلي حريق رهيب, حصد حياة الأطفال والذين ذهبوا إلي التحكيم, وكان منهم حازم شحاتة الذي كنت أحثه علي الانتهاء من أطروحته للدكتوراه في المسرح المصري المعاصر, ولكنه فارق الدنيا في حريق سببه الإهمال الفظيع, ولكن عماد عفت فقد حياته ليس بسبب الإهمال الفظيع, وإنما بسبب الوحشية والاعتداء علي حقوق الإنسان, وحصد أرواح المتظاهرين في شارع الشيخ ريحان, وقبله في شارع محمد محمود في التاسع عشر من شهر نوفمبر الماضي, وقبله في ميدان التحرير, ابتداء من الثامن والعشرين من يناير الماضي. وتصادف أن ذهبت في يوم الأحد اللاحق إلي اجتماع شيخ الأزهر فضيلة الإمام أحمد الطيب, ولمحت أثناء الاجتماع فضيلة المفتي علي جمعة, فذهبت إليه, واحتضنته معزيا إياه في ابنه العلمي, وواسيت الرجل بالكلمات المناسبة, ولما عرفنا أنا والصديق جمال الغيطاني أن العزاء في مساء اليوم نفسه, قررنا الذهاب لعزاء أهل عماد, وتصادف أننا ذهبنا إلي العزاء في المرحوم اللواء عبد الكريم دوريش, نائب وزير الداخلية الأسبق وزوج الدكتورة ليلي تكلا وخرجنا من عزائه الذي أقامته أسرة عماد الفقيرة في صالة للعزاء في شارع مجاور لمسجد الخرتلي بالسيدة زينب, وبذل سائق جمال الغيطاني جهده في الوصول إلي العزاء المقام في نهاية الشارع الصغير, وكان الأجدر أن يقام في ميدان التحرير, ولكن هكذا شاء من بيدهم الأمر, وجلست مع جمال الغيطاني متجاورين, وعندما رأيت صديقنا الدكتور حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر, تذكرت المرة الأولي التي طالعت فيها صورة عماد عفت علي شاشة إحدي القنوات التليفزيونية, فقد كان يسير بالقرب من الدكتور حسن الشافعي, ساعيا ما بين قوات الأمن والشباب الثائر في شارع محمد محمود, كي يفصل بين الشباب الغاضب وقوات الأمن المركزي, حفاظا علي أرواح الشباب, مدفوعا بوطنيته التي جعلته يندفع مع الشباب الوطني الذي كان مثله في صدق وطنيته, وشاءت إرادة الله أن تحمي عماد عفت في تظاهرات الخامس والعشرين من يناير وما تلاها, وأن ترعاه العناية الإلهية مع الدكتور حسن الشافعي في تظاهرات نوفمبر, وشاء له الله العلي القدير أن يذهب إلي أرض رسولنا الكريم ليقضي حقا واجبا, ويعود منها ليلقي حتفه في شارع الشيخ ريحان, صريع رصاصة غادرة أطلقها عليه أحد الضباط من مسدسه, وأصابت الرصاصة الجانب الأيسر من صدره مخترقة قلبه, فسقط الشيخ عماد عفت الذي عرفه الشباب من الثوار بوجهه الباسم, كأنه يعلن ببسمته اقتناعه التام بنقاء وطنية الشباب الثائر الذي انضم إليه منذ بداية ثورة52 يناير, وظل في وسطهم لكي يحمي الثورة التي سرقها ولا يزال يسرقها أعداء مبادئها الأساسية, ولكي تظل شعلة هذه المباديء متوهجة, لا تطفئها بقايا النظام القديم, ولا امتداداته التي لا تزال تحكمنا بالمنطق نفسه وبالآليات نفسها, وكانت الرصاصة التي أطلقها أحد الضباط علي صدر عماد عفت من علي بعد متر تقريبا, فيما قيل لي, كأنها حكم بالإعدام علي رجل يشهد أن لا إله إلا الله, وعائد من أرض نبيه, ليؤكد مباديء السماحة التي كانت تشع من بسمته ومباديء الحرية والعدالة والديمقراطية التي كنت تؤكدها كلماته ومواقفه, ولذلك كان لابد أن يغتاله جند الشر أيا كان الزي الذي يرتدونه, فليلحق عماد بأقرانه الذين سبقوه إلي الرحيل عن أرض غاب عنها نور العدل والعقل. وحرصت أن أعرف أكثر ما يمكن معرفته عن عماد عفت, أو عماد الدين عفت الذي يبلغ من العمر إثنين وخمسين عاما, قضي أغلبها في طلب العلم, فحصل علي ليسانس الآداب واللغة العربية من جامعة عين شمس, ومعه ليسانس الشريعة من كلية الشريعة بجامعة الأزهر, ودبلومات في الفقه والشريعة من كلية الشريعة بالأزهر وكلية دار العلوم بجامعة القاهرة, وحفظ فضلا عن ذلك.. كتاب الله وعنده إجازات بقراءته وإقرائه بقراءته العشر, وقرأ أكثر من كتاب في علوم الشريعة علي شيخه وأستاذه الدكتور علي جمعة, ويقوم بالتدريس في الأزهر, وترقي في دار الافتاء إلي أن أصبح مدير إدارة الحساب الشرعي, وعضو لجنة الفتوي بها, بعد أن كان رئيس الفتوي المكتوبة, وآخر فتاواه تحريم التصويت لفلول الحزب الوطني, أو من كانوا أعضاء فيه, والشهيد عماد الدين أحمد عفت عفيفي مولود عام9591 في الجيزة ومتزوج وله أربعة أطفال, كان يحمل بعضهم خلال المظاهرات الوطنية ليعلمهم كيف يعبرون عن حبهم لوطنهم منذ الصغر, ولم يكن يجلس علي مقاهي المثقفين مكتفيا بالثرثرة, أو الكتابة التي تتمسح بالثورة من أدعياء الزمن الملتبس, فقد كان حاسما كالسيف في الحق يصل العلم بالعمل, وبالإيمان العميق بدينه الدفاع عن العدل الذي استشهد أثناء العمل علي تحقيق مبادئه وقيمه الحقة, ولم يكن وحده في ذلك, فهناك ممن استشهد مع عماد في اليوم نفسه علاء عبد الهادي الطالب في السنة الخامسة في كلية الطب جامعة عين شمس الذي كان عضوا في ثورة الخامس والعشرين من يناير, وتطوع للعمل في أحد مراكز الإسعاف التي أقامها زملاؤه خلال أيام يناير المجيدة, وهناك المهندس محمد عبد الله عبد السلام الذي استشهد أمام مجلس الوزراء احتجاجا علي وزارة الجنزوري الذي كان اختياره من المجلس الأعلي للقوات المسلحة خطأ فادحا. وبقدر حزني علي الشاب الثائر الذي لايزال يستشهد منذ الثامن والعشرين الماضي في سبيل تجسيد الحلم العظيم الذي بدأ يتحقق بثورتهم المجيدة, فمن واجبي مع غيري من شرفاء هذا الوطن إدانة السلوك الوحشي الذي رأينا صوره الصادقة في الفتاة التي عريت من بعض ملابسها, ويجرها جنديان من يديها, مسحولة شبه عارية, مثلها مثل غيرها الي ظلت تجر علي ظهرها وحذاء جندي يوشك أن يسحق بطنها, في امتهان لابد أن يعيد إلي الأذهان فضيحة الكشف عن عذرية الفتيات الثائرات, فضلا عن إطلاق الرصاص علي المتظاهرين المسيحيين في ماسبيرو, ومرور مدرعة علي أجساد الأبرياء الذين سقطوا تحتها شهداء أمام مبني التليفزيون, وليس جيشنا العظيم الذي حقق نصر أكتوبر المجيد هو الذي يمكن أن يفعل ذلك, وليست قيادة جيشنا الوطني الذي صرخنا له من أعماق قلوبنا الجيش والشعب أيد واحدة هي التي تأمر بارتكاب هذه الجرائم, وليسوا جنودنا الذين عبروا القناة في حرب أكتوبر المجيدة هم الذين يتراشقون بالحجارة وعدد من أبناء الشعب الغاضب, إن صورة جيشنا العظيم أكبر وأسمي من أن نراها علي ما رأيناه, وجعلنا نغضب منهم ونحزن لهم, ولذلك لابد من مراجعة الأفعال والأقوال والممارسات, منعا للمزيد من الأخطاء القاتلة, وحماية لأرواح أبناء شعبنا, خصوصا أمثال الشهداء الثوار الذين افتدوا وطنهم, ولم يسمع أهلهم حتي كلمة اعتذار من قيادة الجند الذين صوبوا إليهم الرصاص الذي يحصد الأرواح أو الخراطيش التي تفقأ الأعين. نحن لا نزال نسمع عن طرف ثالث مجهول, وعن قوي أجنبية تتدخل بأصابع محلية مجرمة, وعن بلطجية يعيثون في الأرض, ومن حق الشعب كله أن يعرف هذا الطرف الثالث, ومن حق تيار الشهداء الذي لا يتوقف أن يعرف القوي التي كانت وراء الأحداث التي أدت إلي اغتياله,و من حق أسر الشهداء جميعا أن تعرف كل ماهو مخفي بلا أي مبرر, أما حجة أنه من مصلحة التحقيق كتمان بعض الأمور فهي حجة تستخف بعقولنا جميعا, اتقوا الله فينا وفي الوطن, وكونوا معنا لا علينا, فأنتم بنا ونحن بكم يا أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة, ونحن لا نزال علي ثقتنا فيكم, واحترامنا لدور جيشنا الوطني, حامينا والدافع عنا إلي النهاية, ولذلك نرجوكم أن لا تدفعونا إلي تغيير حسن ظننا بكم إلي اليوم, وندعوكم إلي الحرص علي الشفافية والمصارحة الكاملة وعدم التردد في حسم الأمور, وعدم الانفراد بالرأي أو المعاندة أو المكابرة فأولي بكم الاحتكام إلي العقل, والائتناس بآراء الحكماء الشرفاء الذين يملأون الوطن, فالشعب لا يزال يثق في قواته المسلحة, ومثقفوه الشرفاء حريصون علي أن تبقي صورة قواته المسلحة, كما هي عليه حقا, حامية الثورة وسفينة النجاة التي تقودها إلي مرفأ الدولة المدنية الوطنية الدستورية, المعمورة بالديمقراطية والحرية وسيادة القانون الذي يتصدي لكل صاحب جرم, مهما كان وزنه أو اسمه أو زيه, أو حتي رتبته العسكرية أو البوليسية, وأتصور أن حسن اعتذاركم لنساء مصر, هو فعل يستحق التحية ويرفعكم في أعين الشعب الذي أكبر فيكم شجاعة الاعتذار الذي أري فيه الخطوة الأولي في احترام حقوق الإنسان المصري واحترام حياة الشعب والحفاظ علي سلامة أبنائه الذين هم أبناؤكم مهما أعماهم الغضب من أفعالكم, أو استفزكم الغضب من أفعالهم. المزيد من مقالات جابر عصفور