رئيس جامعة سوهاج والمتحدث العسكري يشاركان الطلاب ذوي الهمم ماراثون بداية الرياضي    أخبار التوك شو|الأرصاد تعلن مفاجأة بشأن الطقس.. بشرى سارة عن المدارس اليابانية.. وآخر تطورات الساحة الإقليمية    رئيس جامعة الأزهر ونائبه يتابعان حالة الطالبات بالمدينة الجامعية بطيبة الأقصر    محافظ أسوان يعتمد نتيجة مسابقة الوظائف الإشرافية ل 575 معلمًا    سفير إيطاليا يشارك في افتتاح "سوق اليوم الواحد" بالأسكندرية    رانيا المشاط:الدول النامية تحتاج بشدة لنموذج للنمو الاقتصادي ولتحقيق التنمية    تعرف على أهداف قانون إنهاء المنازعات الضريبية قبل مناقشته بمجلس الشيوخ    «رجال الأعمال المصريين» توقع اتفاقية تعاون مع لجنة مدينة لينيي الصينية لتعزيز التجارة الدولية    وزير الخارجية يبحث فتح مزيد من الأسواق الأوكرانية أمام المنتجات المصرية    قادة الغرب يحثون إيران : لا تردوا على إسرائيل | تفاصيل    «اليماحي» يتعهد بوضع استراتيجية جديدة للبرلمان العربي    فرمان مفاجئ للخطيب في الأهلي بعد الفوز على الزمالك    رسالة من لاعب بالزمالك: ليس لدي مشكلة في فسخ تعاقدي وأنتم غيرمسؤولين    كامل أبو علي يُدلي بصوته على الميزانية في اجتماع الجمعية العمومية للنادي المصري    رسميا.. «كاف» يعتبر منتخب ليبيا خاسرا أمام نيجيريا في تصفيات الأمم الأفريقية    تشكيل الهلال المتوقع ضد التعاون في الدوري السعودي    زامل رونالدو سابقًا.. النصر السعودي يخطط لضم "مشاغب فرنسا"    «محتاجين ولاد النادي».. ميدو يوجه رسالة خاصة بشأن الزمالك بعد خسارة السوبر    أسيوط .. السجن المؤبد ل 4 أشخاص لحيازتهم أسلحة نارية ومواد مخدرة    حالة الطقس اليوم السبت 26-10-2024 في محافظة البحيرة    عاجل.. تأجيل إعادة محاكمة عنصر ب "لجان العمليات النوعية" ل 27 يناير    تامر عاشور يتألق في أضخم حفل غنائي بالقاهرة الجديدة.. صور    كواليس بكيزة وزغلول والأفوكاتو .. 20 صورة من ندوة إسعاد يونس بمهرجان الجونة    ما هي الأبراج التي تنشط ليلًا ولا تستطيع العمل بالنهار؟    هانى شنودة يفاجئ هشام خرما بعزف مقطوعة "شمس الزناتى"    عايدة رياض: «اتجوزت عرفي 10 سنين وكنت زوجة تانية» (فيديو)    سبب غياب ياسمين صبري عن مهرجان الجونة.. ما علاقة ساركوزي؟    برلماني: توجيهات السيسي بتعميم منظومة التأمين الصحي الشامل ثورة في قطاع الصحة    «100 يوم صحة» تقدم 135.7 مليون خدمة طبية مجانية خلال 86 يوما    وزير التعليم العالي يفتتح عددًا من المشروعات التعليمية والصحية بجامعة الإسكندرية    بلينكن يدعو لتسوية دبلوماسية في لبنان    رئيس مجلس النواب يهنئ محمد اليماحي بمناسبة فوزه برئاسة البرلمان العربي    فيديو.. رئيس الأركان يتفقد إجراءات التأمين على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي    اعتماد ترقية 6379 عضواً بهيئة التعليم إلى الوظيفة الأعلى في أسوان    خبير بالشأن الإيراني: الضربة الإسرائيلية على إيران كانت محدودة واستهدفت أهدافًا عسكرية فقط    شهيد فلسطينى برصاص إسرائيلى فى مدينة طولكرم شمال غرب الضفة الغربية    شهيد و3 مصابين جراء قصف الاحتلال منطقة قيزان أبو رشوان فى خان يونس    أستاذ بالأزهر: الزوج لازم يقول كلام طيب لزوجته لهذه الأسباب    مدبولي: نحرص على دفع العمل في القطاعات المُنتجة لخفض فاتورة الاستيراد    76.05 دولار لبرنت.. تعرف على أسعار النفط بالأسواق العالمية    جهاز دمياط الجديدة ينفذ 11 قرار غلق وتشميع وإزالة مبانٍ مخالفة    صحة الدقهلية: تحصين 7500 سجين من النزلاء الجدد باللقاح الكبدي الفيروسي B    جامعة القاهرة: 1627 مواطنًا استفادوا من خدمات قافلة كفر طهرمس    هل صلاة قيام الليل يمكن أن تعوض الصلوات الفائتة؟.. الإفتاء توضح    ألبا وميسي يقودان إنتر ميامي للفوز على أتلانتا يونايتد    خلال 24 ساعة.. تحرير 509 مخالفات لغير الملتزمين بارتداء الخوذة    وزير الأوقاف: القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي أيد الله عز وجل بها نبيه    إصابة ربة منزل سقطت من الطابق الثاني بالجيزة    فيديو.. خبير سياسات دولية: إسرائيل تهول من نجاح الهجوم على إيران    إعلام لبناني: طيران الاحتلال الإسرائيلي يشن غارة على بلدة طيردبا    بعد غياب 35 عاما.. بطلة مسلسل هند والدكتور نعمان تفكر في العودة للتمثيل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 26-10-2024 في المنيا    التنمية المحلية: انطلاق الأسبوع ال 13 من الخطة التدريبية للمحليات بتنفيذ 5 دورات يستفيد منها 166 متدربًا    هل تجب قراءة الفاتحة بعد الإمام في الصلاة الجهرية أم يجوز تركها؟    مصرع عامل بعد إصابته برش خرطوش بالبطن والصدر في سوهاج    موعد بدء التوقيت الشتوي 2024 في مصر: تفاصيل ومواعيد جديدة للقطارات    البيت الأبيض: علمنا بهجوم إسرائيل على إيران قبل ساعات من وقوعه    انتشال جثة شخص من مشروع ناصر بعد 24 ساعة بالبحيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طوغان: سعد زغلول فؤاد .. نصير الحرية .. وضيف المعتقلات الدائم!
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 05 - 2013

أحمد طوغان هو شيخ رسامي الكاريكاتير 87 عاما أطال الله في عمره يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته التي يفتحها لملحق الجمعة بالأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما..
وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لايرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب.
أعود إلي نماذج ممن عرفتهم في حياتي منهم( سعد زغلول فؤاد) فهو نموذج فريد من الناس, وهب نفسه للحرية فقضي أغلب سنوات عمره في السجون والمعتقلات!.. عشق نصرة الحق ودفع الكثير في الدفاع عنه وفشل في الحصول علي حقه هو!.. كان احتماله وتماسكه ومقاومته مضرب الأمثال ولكن الزمن والظروف بعد جهد جهيد تمكنا منه!.. كان دائم التفاؤل رنان الضحكة فاقع النكتة محبا للمرح والحياة ولكن الظلم والإحباط والظروف انتصروا عليه!.. أول مرة التقيت فيها بسعد زغلول فؤاد كانت في منزل الفريق المتقاعد عزيز المصري باشا الذي كان في حي الزيتون بالقاهرة!
وعندما تصدي عزيز المصري الذي كان مفتشا عاما للجيش للبعثة الإنجليزية التي كانت تتدخل في شئون البلاد فأحالوه للمعاش, وسكن في حي الزيتون الذي كنت أتردد عليه وفيه كان لقائي الأول مع سعد زغلول فؤاد!
كان اليوم يوافق عيد ميلاد سعد زغلول وكان الحضور وجيه أباظة وحسن عزت وخالد محيي الدين وأنور السادات, وفي عيد ميلاد سعد كانت هدية عزيز المصري لسعد.. مسدس!
من يوم لقائي بسعد انعقدت بيننا صداقة دامت إلي أن وافاه الأجل, وحياتي معه كانت مثيرة! وقصة حياة سعد زغلول فؤاد تستحق روايتها: وهب نفسه للحرية فقضي معظم حياته في السجون بأنحاء الوطن العربي من أقصاه إلي أدناه!
في المغرب أمسكوا به ووضعوه في السجن بتهمة محاولة قتل الملك الحسن الثاني, وحكموا عليه بالإعدام وأنقذته الصدفة!
وفي مصر وبعد قيام ثورة يوليو وفي اللحظة التي أبعدوا فيها اللواء محمد نجيب عن السلطة, كانت هي نفس اللحظة التي قبضوا فيها علي سعد وأودعوه في معتقل القلعة!
وفي العراق ألقوا به في السجن وقالت الإشاعات أنهم سقوه السم, ووقع صريعا بين الحياة والموت; وفي فرنسا أخرجوا السم من جسمه إلي أن عاش وكتبت له الحياة!
.......................
.......................
بدأت حياة سعد زغلول فؤاد عندما كان في السنة السادسة من عمره يوم أن رفع قامته الصغيرة وأطل من شرفة مسكنه في بني سويف ووجد عددا من عربات الكارو تحمل مجموعة من الناس جرحي كانوا بين متظاهرين يرحبون بزيارة مصطفي النحاس باشا لمدينة بني سويف, أيامها كان النحاس يقود المعارضة ضد حكومة إسماعيل صدقي باشا التي أمرت بإطلاق الرصاص علي المتظاهرين, ووقع قتلي وجرحي كان من بينهم شيخ عجوز هو عم حسنين بائع الحلوي والسميط للأطفال والذي كان الطفل سعد من زبائنه الدائمين, وكانت نقطة تحول في حياته وفي عام1933 عندما دخل المدرسة الابتدائية وقف أمام مظاهرة للتلاميذ تهتف بسقوط الحكومة وطرد الاحتلال وإعلان الاستقلال التام, و( يسقط هور ابن الطور)! وكان صمويل هور أيامها وزيرا لخارجية بريطانيا, دخل سعد في الزحمة واعتلي كرسي وألقي في الجمع خطبة حماسية لفتت إليه الأنظار وعندما فتشوا عنه كان قد زاغ بين التلاميذ!
كان سعد زغلول فؤاد إلي جانب دراسته يمارس العمل الصحفي وكان أفراد الغرفة رقم(8) بجريدة الجمهور المصري وعرف أن النحاس باشا مسافر بالقطار إلي الإسكندرية فذهب وسأله كصحفي عن الخطوة التالية بعد إلغاء المعاهدة فقال النحاس: الكلمة الآن للشعب.
الكلمة الآن للشعب.!
وفي اليوم التالي صدرت الجمهور المصري وعلي صفحتها الأولي مانشيت بالخط العريض وباللون الأحمر فيه: الكلمة الآن للشعب!
وفي نفس اليوم حصل سعد علي فتوي شرعية من أستاذه في الشريعة الإسلامية الشيخ أبو زهرة نشرها في العدد التالي من الجمهور بالبنط العريض وباللون الأحمر وعلي رأس الصفحة الأولي تقول إن: قتال المحتلين فرض عين علي كل مسلم!
كنت ألتقي سعدا في الميدان خلال المقاومة ضد الإنجليز, وعرفنا أن الإنجليزي ينوون مهاجمة قرية اسمها القرين متهمة بإيواء المقاومين وكان الموقف يحتاج إلي مزيد من البنادق والذخيرة, وتذكر سعد صديقا له وبلدياته من بني سويف اسمه صلاح زعزوع, كان صلاح ضابطا بالجيش يتولي قيادة مجموعة من الجنود لحراسة بساتين بهي الدين باشا بركات!
ذهب سعد إلي صلاح وشرح له الموقف وحصل منه علي الذخيرة وبنادق الجنود, وكان ذلك أن يودي بصلاح إلي المحاكمة والسجن والعزل, ولكنها الإرادة والتصميم والعزيمة التي كان يتحلي بها كل الشعب من أجل طرد المستعمرين, أصبح صلاح فيما بعد أحد الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة في23 يوليو عام1952!
عاشت مصر هذه الأيام معركة بطولية انتهت بخروج المحتلين ورحيلهم عن بلادنا التي جاؤوها عام1882 وخرجوا منها1954 بعد نضال اشترك فيه كل الشعب من فلاحين وعمال وطلبة وضباط جيش وشرطة, كل عام تحتفل مصر بعيد الشرطة تكريما لمجموعة من جنودها كانوا بالبنادق العادية وواجهوا جيش الاحتلال بسلاحه وعتاده ودباباته وطائراته في معركة فاصلة شهد فيها القاصي والداني بأنها كانت المعوال الأخير في انهيار امبراطورية كانت لا تغرب عنها الشمس!
خلال قتاله ضد المحتلين كان سعد بين الحين والحين يأتي إلينا في جريدة الجمهور المصري وكان عضوا في الغرفة رقم(8) وأحيانا كان يقوم بخبطات صحفية مثيرة لم تكن تقل إثارة عما يحدث في مدن القنال وكانت دراسته في الجامعة الأمريكية قد أوصلته إلي إتقان اللغة الإنجليزية وكنا في عام1951 ومصر كلها تغلي مطالبة بإلغاء معاهدة36 التي كانت تسمح بنودها ببقاء قوات الاحتلال, وارتفعت الشعارات الجديدة: الجلاء بالدماء والكفاح المسلح طريق الحرية وفوجئ الناس بخبر يقول إن رئيس أحد أحزاب الأقلية في زيارة له بباريس يصرح لصحيفة فرنسية بأن بقاء القوات البريطانية في مصر كفيل بضمان أمنها واستقرارها وعندما نشرته صحيفة مصرية كذبه رئيس التحرير واتهم الجريدة بالكذب والافتراء!
مندوب جريدة همر ديلي نيوز الأمريكية
واتت سعد فكرة عرضها علي أبو الخير نجيب رئيس التحرير الذي وافق عليها وتحمس لها, أتقن سعد تزوير كارنيه صحافة أجنبي باسم سبنسر دريل مندوب جريدة همر ديلي نيوز الأمريكية وأنه جاء إلي مصر لاستطلاع رأي الزعماء في موضوع قوات الاحتلال في مصر والتقي بعديد من رؤساء الأحزاب منهم من كان حريصا كدسوقي باشا أباظة رئيس حزب الأحرار الدستوريين ومنهم من كان مفلوت اللسان فطلب زيادة قوات الاحتلال عشرة أضعاف ومنهم من رشح إبراهيم عبد الهادي باشا في استقبال القوات الأمريكية إذا ما جاءت بديلا عن الإنجليز ومنهم من اعترف بأن حزبه هو الذي قتل حسن البنا ومنهم من استغرق في حديث غرامي ساخن مع إحدي السيدات المعروفات.
وعاد سعد إلي الجريدة التي نشرت الموضوع علي صفحتين بعنوان الجمهور المصري تكشف الطابور الخامس; وكانت فضيحة العصر التي رفعت توزيع الجريدة إلي عدد خرافي اضطرت معه إلي إعادة الطبع عدة مرات في نفس اليوم!
كان سعد خلال عمليات المقاومة ضد الاحتلال في مدن القناة وكأنه وجد ما كان يبحث عنه طوال حياته, وكأنه مخلوق لا لشيء إلا للصراع مع جنود الإنجليز, وكان ينزل في فندق رويال بالإسماعيلية الذي كان يمتلئ بضباط وجنود الإنجليز خصوصا علي البار الكبير الذي كان يحتل قاعة كبيرة, كان سعد قد عرف بوجود300 مصري محتجزين في أحد معسكرات المحتلين وواتته فكرة فقرر خطف جندي أو اثنين ومبادلتهما بالمعتقلين المصريين!
وعلي البار جلس إلي جانب جندي وبادله الحديث ثم اتصل بصديق له كان يورد الأغذية للمعسكرات وكان يملك سيارة وأقنعه بقصة نيته في خطف جندي وهو موجود معه في الفندق وحالته مؤهلة للخطف لمبادلته بالمعتقلين المصريين وكلهم تقريبا كانوا من مدينة الإسماعيلية واستجاب الصديق وجاء إلي الفندق واقتنع بالمشروع وعندما عاد كان قد أدار موتور السيارة, فوضع سعد يده في جيبه ورفع إصبعه وغرسه في جانب الجندي وقال له هامسا في أذنه: لا تتحرك أنا فدائي مصري ولن نؤذيك إذا ما خرجت معنا في هدوء كان السكر قد عطل أي مقاومة عند الجندي الذي حل فيه الرعب فانقاد لسعد الذي سلك وصديقه طرقا جانبية بعيدا عن نقاط التفتيش في طريقهم إلي القاهرة!
كنت أقيم في شقة وسط القاهرة معروفة للقاصي والداني, كانت في أول شارع شريف, في الدور السابع وأمام البناية ممر علي جانبه قهوة النشاط ويتذكرها أمثالي من المتقدمين في السن, كانت تحتل رصيف الشارع مباشرة, الصف الأمامي يتبعه خمسة صفوف من الكراسي عليها الناس وكأنهم داخل محطة انتظار القطار, كان دائما مزدحما بالناس, وللمقهي قصة من التاريخ لا بأس من سردها, يقولون إن المقهي تغير مع الزمن والجالسين فيه اليوم معظمهم أحفاد من كانوا يجلسون عليه أيام دخول قوات الاحتلال الفرنسي للقاهرة بقيادة نابليون بونابرت, كانت أرتال الجنود والخيال وحاملات المدافع تمر في الشارع أمام المقهي قادمة من بولاق! استلفت نظر مترجم مع الحملة منظر الناس الجالسين علي المقهي يدخنون النرجيلة ويلعبون النرد ويتحدثون ويتضاحكون ولا يبدون غير التفات قليل لقوات الغزو فنزل وجلس إلي جانب شيخ يدخن وقال له: عارفين مين دول؟! قال الشيخ: أيوه دول الإفرنج, قال المترجم: وانتوا قاعدين كده! الموارد البشرية ح تقوموا تطلعوهم ؟! قال الشيخ بعد أن أزاح الشيشية من علي شفتيه وقال بهزة خفيفة من رأسه: بعد شوية همه ح يطلعوا!
وتلك هي فلسفة الشعب المصري من قديم الزمان!
خلف المقهي وأمام المبني كانت حديقة صغيرة جميلة فيها مكان لسيارة واحدة كان يملكها الروائي الكبير عادل كامل المحامي ووكيل صاحب المبني, وكان في واجهة البناية مقهي كانت تملكه سيدة يونانية الأصل كان اسمها مدام روز يؤم مقهاها بشكل يومي الممثل العبقري صلاح منصور وحوله باقي الفنانين والفنانات إلي وقت متأخر من الليل, وفي الدور الأول للبناية ناد للألمان والمصريين الذين تخرجوا في الجامعات الألمانية وهو موجود حتي اليوم ورئيسه الحالي هو المهندس الكبير أحمد عبده, كنت تقريبا مقيما في الشقة وبين آن وآخر كنت أزور أهلي في الجيزة, وكانت الشقة مفتوحة, يزورها في اليوم الواحد أكثر من ثلاثين ضيفا فيهم المترددون بشكل دائم تقريبا منهم زكريا الحجاوي وعباس الأسواني وإحسان عبد القدوس ومحمود السعدني ويوسف الشريف وعبد الرحمن الشرقاوي ولويس جريس والممثل محمد رضا والشعراء أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الخميسي ومن العرب الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والفلسطيني معين بسيسو والسوداني محمد الفيتوري والصديق عادل أمين المحامي ومدحت البيلي المهندس الذي كان مقيما في ألمانيا وكانت فترة وجوده بالقاهرة يقضي معظمها في الشقة!
كانت سهراتنا تبدأ من التاسعة مساء وتنتهي في حوالي الثالثة من صباح اليوم التالي, وفي يوم كان الجميع قد انصرفوا إلا كامل زهيري الذي كان يغط في النوم فسحبته وهو نائم إلي السرير وأفوق علي مفاجأة مهولة!
في الرابعة والنصف سمعت طرقا علي الباب وتصورت أن أحدهم نسي شيئا يريد استعادته وفتحت الباب لأفاجأ بسعد زغلول فؤاد يدفع بجندي إنجليزي ويدخل بسرعة ثم يغلق الباب وبين ذهولي عرفت من سعد أنه خطف هذا الجندي وجاء يخفيه في القاهرة واختار شقتي التي لا تصلح إطلاقا ولا بتاتا لمثل هذا الغرض, والتي يؤمها في اليوم أربعين شخصا علي الأقل, وطلب سعد إبقاء الجندي علي الأقل إلي ما بعد الغد حيث أعد له مأوي عند صديق له في الفيوم وبين لي سبب اضطراره وأزمته!
تركت سعد مع المخطوف في الشقة ونزلت سوق التوفيقية الذي لا يغلق أبدا لا ليلا ولا نهارا واشتريت الخيار والخس والطماطم وكوسة التي كان يسهل طهيها بالإضافة إلي2 كيلو لحم وكان الكيلو أيامها سعره أربعين قرشا أحسن نوع كما اشتريت عيش وجبنة وزيتون وعدت إلي الشقة لنغلق بابها ونكتب علي ورقة علقانها علي الباب تقول إنني اضطررت لسفر مفاجئ إلي الإسكندرية وأعود بعد ثلاثة أيام!
.. وقامت قيامة الإنجليز
قضيت مع سعد والجندي الأسير يومين وكان كامل قد اضطر للذهاب لأمر مهم وشخصي بعد أن أقنع سعد بضرورة تسليم الجندي للمسئولين اتقاء للعواقب!
كنت أقيم مع سعد وأسيره في أقصي غرفة بالشقة كنا نأكل ونشرب وننام فيها, تحدثنا وضحكنا وتصادقنا وكان الجندي اسمه ريجدن أخذه سعد وغادر الشقة بعد يومين, كانت قيامة الإنجليز قد قامت وهددوا بتدمير مدن القناة إذا لم يظهر الجندي المخطوف خصوصا وأن الحادث وقع بعد حادث قيام أهالي السويس بقتل ضابط بريطاني اسمه مور هاوس قيل أنه ينتمي للأسرة المالكة البريطانية, ثم عاد سعد وحده وقال لي إنه سلم الجندي لزكريا محيي الدين عضو مجلس الثورة لتنتهي الأزمة بالعثور علي الجندي في أحد شوارع المنيا!
تاريخ سعد زغلول فؤاد حافل بالحوادث والأحداث الكبار ومنها أنه كان علي علاقة قوية بثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي وحارب مع جيش التحرير الوطني الجزائري في منطقة الأوراس, وفي عام1963 كانت الجامعة العربية قد دعت إلي عقد مؤتمر للتعريب في الرباط عاصمة المغرب, فمنح الرئيس بن بيلا جواز سفر دبلوماسيا لسعد وكلفه بحضور المؤتمر ممثلا للجزائر!
وما أن انتهت الجلسة الأولي حتي عاد إلي الفندق لينقض عليه أربعة رجال سحبوه وأدخلوه في سيارة معصوب العينين مقيد اليدين, وسارت السيارة وعندما توقفت دخلوا به مبني ورفعوا العصابة من علي عينيه ليجد نفسه أمام الجنرال أوفقير الذي كانوا ينعتونه بسفاح المغرب وأوفقير هو الذي ذبح بيده الزعيم التاريخي المغربي المهدي بن بركة في باريس ودفن مئات من المغاربة في باطن الأرض وهم أحياء, كان أوفقير يعرف العلاقة بين سعد وبن بركة فأمر بتعذيبه والتمثيل به ثم وجه إليه الاتهام بمحاولة اغتيال الملك الحسن الثاني ملك المغرب( أوفقير بعد ذلك هو الذي حاول اغتيال الملك ولكن محاولته خابت فقبض عليه وأدين وأعدم رميا بالرصاص)!
أيام وليال لمدة ثلاث شهور تلذذ أوفقير بتعذيب سعد بأبشع وأحدث أنواع التعذيب إلي أن تدخلت مصر وحصل السفير المصري وكان وقتها عبد العزيز جميل علي موافقة الملك الحسن الثاني بالافراج عن سعد! حمل السفير أمر الإفراج وذهب إلي السجن وطلب باسم الملك تسلم السجين سعد زغلول فؤاد, وارتبك مأمور السجن وخاف وقال إن السجين مودع بأمر الجنرال أوفقير, فأمسك السفير بالتليفون وطلب أوفقير وبعد كلمات قليلة قاله له: إذا ما خرجش معايا ح أقعد معاه! وأعطي السماعة للمأمور الذي أتي بسعد!
مطلوب اعتقالك في مصر
وخلال العشاء في منزل السفير قال لسعد: أنا عارف إنك مظلوم وعارف سر حقد أوفقير عليك بس تحب تروح فين دلوقتي ؟! أصل إنت مع الأسف مطلوب اعتقالك في مصر! فاختار سعد روما وذهب إليها وبعد شهور داخله الحنين إلي مصر, استقبلوه في السفارة بايطاليا بالترحيب وقالوا أنه لا مانع في عودته إلي مصر وأنها كانت مجرد شبهات, وفي صالة الوصول بمطار القاهرة سمع من مكبر الصوت نداء: يقول: رجاء إلي الأستاذ سعد زغلول فؤاد التوجه إلي قاعة كبار الزوار!.
وما أن دخل القاعة حتي استقبله أربعة رجال بالترحاب وقدموا أنفسهم بأنهم من مصلحة الاستعلامات جاءوا ليكونوا في شرف استقباله وتسهيل إجراءات وصوله وبعثوا في إحضار حقائبه, وكان كبيرهم أشيب الشعر أشار لسعد وقال اتفضل سعادتك, وعلي باب الخروج كانت تقف سيارة سوداء فاخرة ركب فيها بالمقعد الخلفي وعن يمينه الأشيب ورجل آخر عن يساره والباقون في المقدمة, وسارت به السيارة في طريق وعندما وقفت أنزلوه ليجد نفسه في السجن الذي قضي فيه أربعة شهور انتهت بحكم القاضي مصطفي زاهر الذي قال في حكمه: ثبت للمحكمة عدم صحة كافة الادعاءات الواردة ضد سعد زغلول فؤاد ويفرج عنه من سراي النيابة ما لم يكن محبوسا علي ذمة قضية أخري!
بعدها سافر سعد إلي العراق فلم يعجبهم سلوكه ولا استقلالية تفكيره ولا أحاديثه التي كان يتناثر منها ما أغضبهم, ويقال أنهم سقوه السم فساءت حالته وثارت زوجته التي كانت ترافقه وهددت وتوعدت فأرسلوه إلي فرنسا حيث عالجوه وشفي بعد جهد طويل, واستقر في باريس هو أسرته ثم عمل مراسلا لجريدة الأهرام في باريس إلي أن تركها وجاء إلي مصر وتقاعد واتخذ له شقة في حي المهندسين ولم يتغير فيه شيء, نفس القهقهة العالية ونفس الابتسامة العميقة وإن كانت السنون والأحداث قد نالت منه بعض الشيء!
قصة سعد طويلة غنية أسعدني الحظ برفته في بعضها وحكيت ما وعته الذاكرة منها, وأرجو أن أكون قد وفيته بعض ما أكنه له من إعزاز واعتزاز وتقدير وحب وعشرة طويلة بلغنا فيها أرذل العمر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.