تختتم هذه الجمعة التي أكتب أثناءها أسبوعا صبغت طرقاته الدماء الطاهرة, وعلا فيه صراخ الاحتجاج لتعرية الفتيات وسحلهن في الشوارع, وميزة الغضب وعدم الاقتناع بالتبريرات الرسمية للجرائم والأخطاء, وبدا في خلال ذلك الجو المشحون أن الحديث عن نجاح المرحلة الثانية من الانتخابات أشبه بهامش بارد علي نص ساخن وملتهب قذف بالحيرة في قلوب المصريين جميعا. وأول ما أبدأ به هو الترحم علي الشهداء وتقديم التحية لروح الشهيد الشيخ عماد عفت الذي كان وجهه الباسم السمح تفاؤلا بالنصر أيقونة لثوار52 يناير في ميدان التحرير, لم يغب الشيخ عن أي تجمع ثوري في الميدان وحين أسقطته رصاصة غادرة مضرجا بدمه في اسبوع الغضب هذا كان دمه الزكي قربانا جديدا لتلك الثورة لكي ترتفع راية نصرها النهائي, وندعو أن يتقبل الله قربانك يا صاحب الفضيلة حقا وصدقا, أما نحن فنستودعك جنة الخلد مع صحبك من الشهداء إلي أن نلقاك ونلقاهم وحتي في موتك فانك تعطينا أملا حين ترد بدمك الطاهر علي سؤال شاعرنا الكبير صلاح عبدالصبور الذي وجهه إلي رصيفك في الشهادة( الحلاج الصوفي الذي صلبوه في بغداد قبل ألف عام): هل يساوي العالم الذي وهبته دمك هذا الذي وهبت؟ أنت أجبت باصرارك علي الشهادة التي تمنيتها كما حدثتنا أرملتك الوفية, قلت نعم, يساوي العالم دم الشهيد الذي يسعي لاقامة العدل, فهو يؤكد رسالة بليغة لمواطنيه بأن الله يأمر بالعدل. وهؤلاء الآلاف الذين شاركوا في جنازتك دليل علي أن الرسالة قد وصلت إلي من يعنيهم الأمر. لكن الرسالة لم تصل إلي مبني( ماسبيرو) التعيس الذي أضاف بعض العاملين فيه إلي فضيحة تعرية الفتيات وسحلهن عار الانتهاك اليومي للحقيقة. تكرر علي شاشاته نفس الخطاب الكاذب المزور الذي انتهجه إبان اشتعال ثورة52 يناير, الأكاذيب نفسها والوجوه نفسها التي حرضت ضد الثورة بشراسة في بدايتها ثم تظاهرت بالتوبة بعد انتصارها هي نفسها التي عادت عندما سنحت لها الفرصة للهجوم علي شباب الثورة والطعن في وطنيتهم وشرف مقصدهم: فهم الآن ليسوا الثوار الحقيقيين الأوائل لكنهم مخربون وبلطجية ومندسون, تهاجم عصاباتهم المأجورة المنحرفة بالطوب والحجارة والمولوتوف جنود الشرطة المدنية والعسكرية المدججين بالأسلحة ولا يردعهم أن يسقط من بينهم من يسقط بالرصاص أو الغاز, إذ يبدو أنهم بالإضافة إلي كونهم بلطجية مندسين فهم أيضا متخلفون عقليا في عرف ماسبيرو, هل تتخيل مثلا المرحوم الشيخ عماد أو الشهداء علاء طالب الطب أو سامح طالب الهندسة أو زميليه بالكلية نفسها سامح ومحمد يتقدمون صفوف المظاهرة ويبادرون إلي إلقاء الطوب والحجارة علي قوات الجيش والشرطة دون سبب غير الرغبة في اثارة الفتنة؟ إن يكن المتكلم مختلا فليكن السامع عاقلا علي الأقل. فلنترك إذن ماسبيرو الميئوس منه ولنتحدث عن المجلس العسكري, لقد ظللت علي مدي شهور أكتب بمنتهي الرفق واللين نقدا لسياسات هذا المجلس, كنت أبدؤه دائما بالتأكيد علي احترامي مثل كل المصريين لقواتنا المسلحة, ولم يكن في هذا أي ادعاء لأني أعرف أن جيش مصر الوطني قد ظل منذ منتصف القرن التاسع عشر درعا للوطنية المصرية, ولكن نقد سياسات المجلس العسكري لا يمس التقدير لجيشنا الوطني بحال, إلا أن المجلس لم يستجب للنقد اللين الذي أملت أن يسمعه كنصح مخلص ولا للنقد العنيف الخشن الذي وجهه له آخرون وظل يرتكب نفس الأخطاء التي أوصلتنا إلي المحنة التي نعيشها اليوم ونتمني لها مخرجا. وأول نقد وجهته للمجلس يتعلق بما نحن فيه الآن هو أنه لم يتخذ موقفا مؤيدا أو حتي وديا تجاه شباب الثورة منذ البدء, بل كان العكس هو الصحيح منذ اعتقالات ومحاكمات مارس وكشف العذرية للفتيات وحتي اتهامات العمالة للفصائل التي لعبت الدور الأكبر في تنظيم الثورة واتهامها دون أي دليل بتنفيذ أجندات أجنبية وتخريبية وفي الوقت الذي ظل المجلس يفتح صدره في تسامح غريب لخصوم الثورة مثل ابناء مبارك ويسمح لهم بالتظاهر حتي أمام باب محكمة المخلوع كان يلاحق ويطارد أي تجمع للثوار, وروجت ماكينة الإعلام الحكومي الشريرة لهذه الاتهامات ولتلويث سمعة الشباب حتي نجحت في تقويض الشعبية الكاسحة التي تمتع بها الثوار في مطلع الثورة. وأعان علي ذلك الفشل الذريع في إدارة المرحلة الانتقالية لاسيما في ملفي الأمن والاقتصاد الحيويين وبدلا من أن يعترف المجلس بالمسئولية عن هذا الفشل تم إلقاء اللوم علي الثوار مرة أخري بحجة أن مظاهراتهم( التي تجري عادة في يوم العطلة الأسبوعي) هي التي تعطل عجلة الإنتاج, وروج الإعلام الفاسد لهذه المقولة الزائغة بالإلحاح عليها حتي أصبح الربط بين توقف تلك العجلة وبين مظاهرات الشباب من المسلمات لدي عامة الناس. ولا أريد أن أضيف إلي ما سبق مسألة التفاهم أو التوافق بين المجلس العسكري وتيارات الإسلام السياسي إلا من زاوية دورها في تعزيز إقصاء وتهميش شباب الثورة. واتضح الأمر منذ تشكيل لجنة تعديل الدستور التي ضمت ممثلين للإخوان المسلمين دون سائر القوي السياسية, بل وقبل ذلك منذ ندب ممثلين للتيار السلفي دون غيرهم أيضا لحل مشكلة الفتنة الطائفية في اطفيح ثم في قنا, وبعد ذلك استجاب المجلس لاصرار هذه التيارات علي انتخاب البرلمان قبل وضع الدستور الذي يرسي ضمانات الديمقراطية للأغلبية والأقلية معا. ثم جري تقسيم الدوائر الانتخابية إلي مساحات شاسعة تضم عدة مدن وقري يستحيل علي الشباب التحرك أو الدعاية في نطاقها, ولا نترك مجالا إلا للقوي المنظمة تاريخيا والتي تستطيع الانفاق السخي مما أعطاها الله علي الدعاية الانتخابية المكلفة. لهذا لم يكن غريبا في أول انتخابات تجري بعد الثورة أن يغيب عنها( أو يكاد) الشباب الذين تدين لهم مصر بأنهم كانوا رأس الحربة لهذه الثورة والذين بذلوا لها دماء شهدائهم الأبرار, هذا فقط ما أردت أن ألفت الانتباه إليه, ولكني أكرر ما ذكرته من قبل وهو أن علينا جميعا أن نقبل نتيجة الانتخابات التي جعلت للتيارات الدينية أغلبية كاسحة في البرلمان, فهذا هو ما انتهي إليه خيار الشعب, وعلي المؤمنين مثلي بأن النظام المدني هو الذي يحقق صلاح الدنيا والدين لهذا الوطن أن يبذلوا جهدا أكبر في الانتخابات المقبلة. أما الآن فلنلتفت إلي الأزمة الراهنة. فأنا أستطيع أن استرسل في التحليل وفي إلقاء اللوم علي المجلس العسكري, ويستطيع طرف آخر مثل ابناء العباسية الصامتين الأغلبية( طبقا لإحصاء غامض) إلقاء اللوم علي شباب الثورة وهم لا يتأخرون في ذلك ولا يقصرون. ولكن إلي أين يمكن أن يقود هذا الانقسام وطننا في هذه اللحظة العصيبة والخطرة؟ أنا شخصيا لم أتردد في هذا المقال ولا في كل ما كتبت منذ بدء الثورة في إعلان انحيازي المطلق لشباب الثورة الذين يمثلون عندي أمل مصر في مستقبل واعد بالخير, لكني أؤمن بأن الخروج من هذه المحنة لن يتحقق بأن يكيل أي طرف للاخر ضربة قاضية تزيحه من المسرح. مصلحة مصر في هذه المرحلة أيا كانت مآخذنا أو جراحنا هي أن نسعي لمد جسور للتوافق بين شباب الثورة والمجلس العسكري للوصول إلي قواسم مشتركة. ويلزم لهذا الغرض أولا إجراء تحقيق عاجل وشجاع يحدد المسئولية ويوقع العقاب العادل علي المتسببين في سقوط الشهداء في شارعي محمد محمود ثم قصر العيني. ويلزم اتخاذ إجراءات عاجلة لتحقيق أهداف الثورة المعطلة بدءا بمحاكمة ومعاقبة رموز النظام السابق دون مزيد من الإبطاء والقصاص من رئيسهم المخلوع ومن أفراد أسرته الذين يتهمهم الشعب بقيادة مؤامرات الثورة المضادة من محبسهم. ويلزم أن يغير المجلس سياسته نحو الشباب تماما بالكف عن تخوينهم وإلقاء التهم الجزافية وتلويث سمعتهم عن عمد( يجب أن يأمر إعلام الدولة بالكف عن ذلك كله وهو يستطيع) ويجب أيضا أن يأمر الإعلام وأن يطلب من أعوانه شخصيا الكف عن سياسة التخويف وبث الذعر عن طريق الانذار بمؤامرات مقبلة في الطريق أو بقرب انهيار اقتصادي شامل. ويجب أن يتيح فرصة حقيقية للشرطة لتطهير نفسها ورد اعتبارها ومصداقيتها لدي الشعب, إذ أن الانهاء السريع للانفلات الأمني وسيادة القانون في الشارع سيقضي علي كثير من أسباب الاحتقان في المجتمع وفي الاقتصاد. وعندما يتحقق ذلك بالأفعال, لا بالأقوال أو علي الأقل عند الشروع في خطوات جدية ملموسة فيجب أن تمتد جسور التواصل للتوافق الوطني المطلوب, ويجب أن تقوم بهذه الوساطة جهة تتمتع بالمصداقية لدي كل الأطراف معروفة بانحيازها الصادق للوطن وحده, ولا أجد هيئة يصدق عليها هذا الوصف الآن سوي الأزهر الشريف الذي يثق فيه الجميع والذي أعلم أنه بذل بالفعل محاولات لرأب هذا الصدع. ان ساندت كل القوي محاولة الأزهر دون أن تمنعها المصالح الشخصية أو الحسابات السياسية أو الشعبوية فستكون أقرب إلي تحقيق النجاح الذي يتمناه الجميع وتمس إليه حاجة الوطن, وهو سيكون في النهاية لمسة وفاء للشيخ الأزهري الشهيد عماد عفت ورفاقه الأبرار ترتاح لها أرواحهم الطاهرة. يارب! المزيد من مقالات بهاء طاهر