رغم كل أزمات المسرح ومحاولات طمس معالمه التى شكلت وعى المصريين عبر العقود الماضية، تبقى دائما خطوات جادة وحقيقية تلفت الأنظار إليها، وتؤكد أن المسرح باق في وجداننا رغم أنف العابثين. ففى الوقت الذي يعانى فيه مسرح الدولة عثرات مقصودة ومتعمدة بدت بوضوح في مهرجانه القومى الأخير، انطلقت بالتزامن عروض – خاصة- شديدة الجاذبية تشير إلى أن القدر يقف بالمرصاد لتلك المحاولات العابثة، فبعد ليلتى أوبريت "حبيبى يا وطن" ومسرحية"روميو وجولييت" الشهيرتين، انطلقت فعاليات مهرجان دى- كاف لفنون الأداء، والتى استقدمت عروضا وورش عمل مبهرة للغاية تعرض في مصر لأول مرة، منها مثلا عرض الأطفال "الفتى المذهل الذي يأكل الكتب" والذي أقيمت حوله ورشة عمل "الكتاب المذهل" وهى لفرقة "بوتووركس من المملكة المتحدة، ومنها أيضا عرض "أرنب أبيض.. أرنب أحمر" للكاتب الإيرانى نسيم سليمانبور والعرض الهولندى "الحرب الكبرى" الذي يعرض منذ خمسة عشر عاما وحتى الآن، بالإضافة لعروض اخرى كثيرة وجذابة، والحقيقة أن كل تفاصيل المهرجان تؤكد حب وعشق كل القائمين عليه للمسرح والفن بشكل عام، فقد بذل الفنان أحمد العطار مجهودا شاقا لاستقدام هذه العروض التى تمثل كل منها حالة فريدة في تيمته واسلوب عرضه وتقنيات تنفيذه، فمثلا عرض "أرنب أبيض.. أرنب أحمر" يتميز بجرأة طرحه فالكاتب الإيرانى قرر أن ينوب عنه عرضه في كل المحافل الدولية ليعرض عنه أفكاره التى تسببت في منعه من السفر خارج بلاده، فكتب هذا النص الذى قدمه أربعة من مختلف الفنانين المصريين على اختلاف أعمارهم مستوياتهم الفكرية، وهم خالد ابوالنجا، وسلوى محمد على وسيد رجب ورمزى لينر، ويعتمد العرض على تقديم كل منهم للعرض لليلة واحدة فقط ودون سابق معرفة بالنص وبلا أى بروفات أو ديكورات او إخراج، فحينما يقف الممثل على المسرح يقرأ النص أمام الجمهور ويستكشفه معهم بل ويشاركونه الأداء، وهى تجربة بالطبع مثيرة للغاية تأتى صعوبتها من كونها قراءة فلسفية لمفهوم الحياة لدى كاتب النص الذى يعانى، مثل كثير من مواطنيه الإيرانيين، من كبت الحريات للدرجة التى اعتبرها نوعا من أنواع الانتحار بسبب أشكال الخداع المختلفة والمبتكرة التى يرتكبها البشر، والنص يكسر كل قواعد العمل المسرحى ولا يسعى أيضا لسيناريو منطقى يستسلم له الجمهور سواء بالمتعة أو حتى بالملل، ولكنه عبارة عن تعليمات يقرأها الممثل ويلتزم بتنفيذها حرفيا مشركا معه الجمهور حينما قرر التعامل معهم باعتبارهم مجرد أرقام يقوم كل منهم ايضا بتفيذ التعليمات المكتوبة، لنجد انفسنا في النهاية أمام حالة مسرحية مثلثة الأضلاع بين كاتب النص الغائب، والممثل الحاضر – خالد أبوالنجا- والجمهور الذى تتسبب مشاركته في الأحداث في عدم تسرب الملل إليهم، وإلا تحول العرض إلى مجرد قراءة تقليدية عقيمة لخواطر النفس البشرية، والمثير في الأمر أن المؤلف يطرح رؤيته للحياة بين سطور نصه، فنراه يفسر تعليماته للممثل والجمهور معا بأن الماضى يصنع المستقبل – نظرا لكتابته النص عام 2009- وأنه بالعرض المقام فعلا في تلك اللحظة فإن المستقبل يمنح هذا الماضى قيمة ومعنى، بالإضافة لتجسيد الجمهور لقصة عدد من الأرانب التى يدربها خال المؤلف على كيفية التسابق للحصول على الجزر، والتى تنتهى دائما بصراع بين الأرانب يمثل في حقيقته نظرة الحكومات إلى شعوبها باعتبارها أرانب تستحق التجويع لتنفيذ سياسات الدول. والنص في النهاية يكشف العديد من المستويات الفكرية التى تستدعى التركيز والانتباه، وهو ما جعل خالد أبوالنجا شديد الاستمتاع بأدائه للعرض وإعادته لجمل بعينها تكشف مكنونات الكاتب، الذى سعى أيضا للتواجد في قلب العرض بأن طلب من أحد الحاضرين –من خلال تعليمات النص- أن يدون ملاحظاته على العمل وأن يصور ايضا مجموعة المشاهدين المشاركين بالتمثيل ليرسلها هذا المشاهد إلى عبر بريده الإلكترونى، ولعل هذا الأسلوب المبتكر هو سر فوز النص بالعديد من الجوائز بعد عرضه في أكثر من 20 مدينة وبأكثر من عشر لغات، فقد نال جائزة مسرح الأرشز باسكتلندا وجائزة الأعمال الصيفية بكندا، وجائزة جريدة الجارديان الإنجليزية لأفضل موضوع مسرحى. أما عرض "الحرب الكبرى" فهو حالة اخرى فريدة تعكس جنون الفن ودقته في آن واحد، فأعضاء فريق هوتيل مودرين الهولندى قرروا تجسيد الحرب العالمية الأولى على المسرح، ليس من خلال ممثلين حقيقيين ولكن من خلال نماذج مصورة من كل مكونات الصورة، ويتم تصويرها وتكبيرها لتظهر للجمهور على شاشة سينما كبيرة على المسرح فتبدو وكأنها حقيقة، فنرى الغابات وكأنها حقيقية في حين أنها مصنوعة من البقدونس، وتنهمر الأمطار على رؤوس الجنود من خراطيم مياة صغيرة، وتهزنا قوة الانفجارات من مجرد ألعاب نارية بسيطة، وهى لغة بصرية جذابة للغاية اكتملت بموسيقى الفنان ارثر سور، والذى اعتمد على المزج بين الالات الموسيقية العتيقة والتكنولوجيا الحديثة، وهى كلها آلات من تصميمه هو، جسدت فكرة الموسيقى الحية المصاحبة للعرض بالشكل المطلوب. ولعل أهم ما في هذا المهرجان هو تقديمه في وقت يعيش فيه المسرح أياما عجاف بالمعنى الحقيقى، لذلك ادعو المسئولين على مسارح الدولة لمشاهدة هذا المهرجان وكل الفعاليات الخاصة الأخرى، لمعرفة ما وصلت إليه الثقافات المسرحية في شتى الدول، فقد زادت الفجوة المسرحية بيننا وبين الغرب لدرجة لا يمكن اللحاق بها إلا إذا أردنا ذلك. لمزيد من مقالات باسم صادق