أغرب اجابة, تلقتها جهات أمنية و قضائية وصحفية في حياتها كانت قبل ايام, و هي الاجابة العجيبة التي رددها اهالي قرية نجع سلام بمركز فرشوط في محافظة قنا. عندما سألهم عدد من ضباط الشرطة ووكلاء النيابة وصحفيين واعلاميين.. من اشعل النيران في منازل القرية وحرق بيوتها ونفوق مواشيها ومحاصيلها.. فاجابوا: انها العفاريت كان الصمت سيد الموقف, ولم يتفق الاهالي وعمدة القرية علي اجابة يوما مثلما اتفقوا في هذه اللحظة علي ان الجاني والمتهم هو' الجان', لينصرف الضباط ووكلاء النيابة من موقع الحادث نظرات الاستغراب والاشفاق من اهالي القرية تلاحقهم وكأنها تقول: ربنا ما يكتبوا علي احد يامعالي الباشا.. فالجن عندما يسخر ويغضب يحرق كل شئ!! إنها اجابات الصعيد الحصرية النادرة والتي قلما ان تجدها في اي مكان آخر غير الصعيد.. فنحن اهله وابناءه نعرفه, ولدنا وعشنا فيه اجمل ايام ربيع عمرنا, ومازلنا نتذكر كيف تماسكت اجزاؤنا بتمر نخيله ولحاء سنطه, ونحت الله وجوهنا من طينته المراوغة, وإشتد عودنا تحت شمسه, حتي عقولنا ومشاعرنا وشهواتنا لاننسي أنها تربت في خزائنه الرطبة, المعتمة, وكم تحملنا ومازلنا نتحمل أمراضه وهمومه وبلهارسيته اللعينة في أكبادنا كل هذه السنين... ورغم كل ذلك فالصعيد ليس ساذجا أو طيبا أو متدينا الي هذا الحد. أنها القبيلة وقوانينها العرفية التي فرضت هذه الاجابة الغريبة, ذلك الضلع الثالث للسلطة بعد الله والخرافة, فالعصبية القبلية مهما تزايدت اخطاؤها وجرائمها وحرائقها تظل هي المحراب الذي يدخله الصعيد ويتضرع فيه ويحتمي به, وأن أي شئ اخر يهون في سبيل الحفاظ علي قدسية وهيبة هذه العصبية المقدسة.. أنظر الي كل مسلسل الحرائق الغامضة التي اندلعت في قري ومراكز سوهاجوقنا واسوان واسيوط طيلة السنوات الماضية, لن تجد فيها سببا او متهما بشريا واحدا يمكن ان يشار اليه بانه هو الذي كان وراء اشعال الحريق.. كل الجناة' عفاريت' وكل' عفاريت النار' صارت تخصص في حرق قري الصعيد واهله.. قد تستغرب أن هذا' الصعيد المتدين' الذي حرص علي انتخاب جماعات تيار الاسلام السياسي ونصرة الاخوان والسلفيين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة هو نفسه اول من يضع' الدين' علي الرف إذا ماتعارضت مصالح القبيلة مع العرف والخرافة, والعرف يقتضي الا يتم توجيه اي اتهامات لأي احد في هذه الجرائم المجهولة حرصا علي تماسك القبيلة والنسيج القبلي من ناحية ودرء الفتن وتجنب الصراعات من جانب اخر, ليتم القاء الاتهامات علي' العفاريت' واعمال' الجان' لأنها هي الوحيدة القادرة التي تحافظ علي العرف والخرافة الضلعين المهمين الباقيين من اضلاع السلطة في الصعيد' الدين والعرف والخرافة'.. فظهور متهم واحد كفيل بأن يدمر هذين الضلعين ويشعل المزيد من نيران الفتنة والحرائق.. المفارقة أن الغالبية منا نحن اهل الصعيد إذا كان لايؤمن بهذه الخرافات وتلك الاجابات الغريبة ولكننا مضطرون لتصديقها حرصا علي الاستقرار, إلا اننا لانعرف لماذا وفي مثل هذه الجرائم والظواهر نغيب عقولنا ولانسأل ماهي فائدة هذه الجامعات الاقليمية واساتذتها وابحاثها وعلمائها ولماذا لا نسالها لتفسير هذه الحرائق المجهولة الغامضة واسبابها, لنسلم ذاكرتنا محصورة بين' الخرافة والجناية' ؟.. إن الذين قالوا بأن العفاريت هي التي تحرق وتشعل النيران لم يكذبوا ولم يبالغوا, والعفاريت هنا, بمعني الجهل والتخلف الذي يرتقي الي المؤامرة علي العلم, وليس العفاريت التي كانت تحكي عنها جدتي وجدتك وتعني التسالي وسهر الليالي المرعبة. اسمع ياسيدي فلقد ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وتبين لي أن المسالة ابسط مما نتخيل.. المسألة أن آبار الصرف الصحي المنتشرة في قري الصعيد وقري الدلتا ايضا.. فلامشروعات ولاخدمات صحية بهذه القري.. فهناك غاز اسمه' الميثان' عديم الرائحة سريع الاشتعال ولا يتولد الا في ظل مخلفات الصرف الصحي والحيواني, حيث ثبت انهما من افضل المصادر لانتاج هذا الغاز, ولقد اثبتت تجارب علمية كثيرة ان العديد من الحرائق اندلعت في مخلفات زراعية نتيجة لوجود غاز الميثان لتأثره بارتفاع حرارة الشمس الملتهبة واشتعاله.. ويبدو ان جامعة المنيا مؤخرا تنبهت الي ذلك فقامت بعمل تجربة لإنتاج الغاز الحيوي من مخلفات الصرف الصحي والماشية بقرية أولاد يعقوب بمركز الفشن ببني سويف ونجحت التجربة فعلا, وتم إنتاج بيوجاز( غاز الميثان), وتم استخدامه في إشعال الموقد, وإنارة مصابيح الغاز( الكلوب). الخلاصة أن ذلك التهميش والتجاهل الحكومي لمشاكل الصعيد ورعايته علي مدي خمسين عاما تقريبا' جعل من قري الصعيد' قري اسطورية خارج الزمن وتحول كل شئ في الصعيد الي خرافة. ملاحظة: لقد اسعدني هذا الخبر: محافظ قنا يكلف فريقا من كلية العلوم ببحث غموض حرائق قرية سلام بفرشوط المتهم فيها' الجن'.