انتهت المرحلة الثانية من الانتخابات أو أوشكت أن تنتهي, ولا أتوقع أن تختلف نتيجتها هي أو المرحلة الثالثة عما انتهت إليه المرحلة الأولي, سيحقق تيار الإسلام السياسي بأحزابه المختلفة تفوقا مقبولا أو تفوقا كاسحا في البرلمان المنتظر, وسيظل للتيار المدني تمثيل رمزي أو تمثيل مشرف في هذا البرلمان, لكنه لن يغير من واقع الأمر شيئا, وواجبنا بالطبع أن نحترم نتيجة الاختيار الشعبي الديمقراطي وأن نتمني التوفيق للفائزين من كل التيارات في خدمة الوطن والنهوض به. أما وقد قيل ذلك, فمن واجبي أن أكرر ما ذكرته في المقال السابق وهو أنني آخر من تفاجئه هذه النتائج, برغم إيماني الثابت بأن الدولة المدنية هي التي تحقق صلاح الدنيا والدين في وطننا, إن لم يكن في كل الأوطان, فهي لا تخاصم الدين بل تعتز به وتعطيه مكانته السامية في المجتمع, لكنها تخاصم الإتجار بالدين وفرض الوصاية علي المجتمع والأفراد باسم الدين أو باسم العقيدة الصحيحة, التي يحتكر التعبير عنها فرد أو جماعة, فالتدخل في حرية الأفراد وفي معتقدهم ومسلكهم يأباه ديننا الإسلامي الحنيف وكل الأديان السماوية, والقيد الوحيد علي هذه الحرية هو قيد القانون العادي في حالة الخروج عليه, وأستند هنا مرة أخري وثالثة ورابعة الي قول من هو أفضل وأعلم مني, أي الي الإمام محمد عبده, الذي أتمني أن يرسخ قوله في عقولنا جميعا حين يؤكد أنه: لا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس علي عقيدة أحد, وليس يجب علي مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقي أصول ما يعمل به من أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم, لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله, وعن رسوله من كلام رسوله دون توسيط أحد من سلف ولا خلف, وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم. وعندي أن هذا الإلغاء لحق أي فرد أو جماعة في الوصاية علي العقيدة الدينية للأفراد لا يضمن فقط حرية الفرد, بل يضمن في الأساس نقاء العقيدة ذاتها من أن يدخلها التحريف أو الانحراف عن طريق فرض تفسيرات خاطئة أو مشوهة, وهي بلوي عانت منها العقائد جميعا وقسمت الناس شيعا متناحرة. كان الإمام محمد عبده حلقة متألقة في سلسلة ذهبية من رواد الفكر الذين أسهموا في تأسيس الدولة المدنية الحديثة, وقادوا الرأي العام للخروج من تخلف العصور الوسطي الذي فرضته عليهم الدولة العثمانية الي الدولة المدنية الحديثة, التي عشنا فيها طوال القرنين الأخيرين, وقد وصفه المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة, في كتابه عنه, بأنه مجدد الدنيا والدين, ويحدد لنا الدكتور محمد حسين هيكل( باشا) دوره في عبارة موجزة تغنينا في هذا التمقام إذ يقول كان الشيخ محمد عبده قد بلغ مركز الإفتاء وكان رجلا حر الرأي, يدرك قواعد المنطق أحسن إدراك, فنادي بأن التقليد ليس من الدين في شيء, وذهب في غير تردد الي أن الجمود هو الذي قضي علي الأمة الإسلامية, بالتأخر وجعلها طعمة للاستعمار الأجنبي لأنه قيد العقل في هذه الأمم الإسلامية بقيود منعته من الانبعاث في التفكير إلي غاية ما يستطاع بلوغه لإدراك الحق والجمال والجلال في خلق الله جل شأنه. غاية الإمام وغاية الدولة المدنية أيضا, هي التخلص من هذه القيود التي تمنعنا من النهوض والتقدم وإدراك حقائق الكون حولنا وما نجهل من علوم واكتشافات لندرك الحق والجمال والجلال في خلق الله سبحانه. وقد قلت في مقالي السابق, إن الدولة المدنية التي بناها قادة الفكر هؤلاء, بفضل ريادتهم وبفضل كفاح الشعب الذي اقتنع بهم, تعرضت علي امتداد أربعين سنة علي الأقل للطعن في مشروعيتها والتدمير الممنهج لبنيتها حتي تآكلت, وأضفت أننا بحاجة إلي جهد كبير لاستردادها لأن الحاجة إليها ملحة أكثر من أي وقت مضي, وفي رأيي أن هناك عوامل كثيرة للأمل في تقريب يوم هذا الاسترداد منها. أولا: ثورة25 يناير والشباب الرائع الذي يحافظ علي شعلتها دون أن تفت في عضده طلقات الرصاص ولا فقء الأعين الغالية ولا المحاكمات العسكرية ولا مهانة كشف العذرية, وهم يمثلون أيا كان عددهم أمل مصر في المستقبل, غير أني أضم صوتي إلي الدكتور البرادعي في مناشدتهم أن يوحدوا صفوفهم مرة وإلي الأبد, فالأوقات صعبة لا تحتمل التشتت والتفرق, والأعداء كثيرون ومصر بحاجة لهم الآن كنواة صلبة في طليعة الشعب, وهؤلاء الشبان يحتضنون في وجدانهم بالغريزة قيم الدولة المدنية التي خرجوا للدفاع عنها في25 يناير, هم لم يروا أن حضارة مصر القديمة حضارة عفنة, كما قيل, بل اصطفوا يحمون عزلا بأجسادهم المتحف المصري من هجمات البلطجية وسط طلقات الرصاص في عز الثورة, كانوا يدركون قيمة تراث أجدادهم الذين علموا الدنيا قيم الحق والخير والجمال فدافعوا عنه كتراث حضارة سامية لا كأصنام شرك كما رأي المتصحرون وجدانا. ثانيا: إن الدولة المدنية مازال لها أنصار كثيرون في المجتمع, يتمسكون أو يتشبثون بقيمها ورموزها, صحيح أن هجمة التيار المعادي لهذه الدولة قوية وغالبة الآن, لكن المقاومة مستمرة وستتصاعد, وعلم التاريخ يقول لنا إن جسامة التحدي توجد بذاتها جسارة الاستجابة, وبعبارة أوضح فإن هجمة الفكر الرجعي الباطشة ستوجد بالضرورة ردا موازيا ومساويا لها في القوة من التيارات المدنية والتقدمية, كلما ازداد الهجوم اشتد الدفاع. ثالثا: تحديات الواقع ستفرض علي الجميع إرجاء الجدل البيزنطي حول القضايا النظرية لمواجهة القضايا الملحة والأساسية التي تحتاج الي حلول علمية وعصرية مثل الأزمة الاقتصادية والبطالة والتعليم والصحة..إلخ, ولم أسمع لتيار الإسلام السياسي حلولا في هذا المجال إلا إيقاف عمل البنوك الربوية ومنع السياحة الأجنبية( السيئة), ومع كل الاحترام فأظن أن هذا لا يكفي وأن لديهم بالضرورة حلولا أخري مستمدة من تراث الدولة المدنية في التخطيط وعلوم الاقتصاد الأخري ستحافظ علي هيكل الدولة ومقوماتها. رابعا: استنادا إلي ما سبق فأتوقع أن يؤدي الاحتكاك السياسي بين نواب الأحزاب الدينية والأحزاب المدنية الي نوع من التفاهم الإيجابي لمصلحة الوطن, فقد رأينا ما أدي إليه النقاش السياسي بعد التصريح البائس الذي اتهم فيه قيادي سلفي الحضارة المصرية بأنها عفنة واتهم أدب نجيب محفوظ, حارس الهوية المصرية, بألفاظ متدنية وغير لائقة, إذ تقدم بعد ذلك قادة آخرون من التيار السلفي يتحدثون بلهجة أكثر اعتدالا ويصوبون ما قاله زميلهم. وكل ذلك حسن ويبشر بأن استرداد الدولة المدنية أمر ممكن ولكن أحسن منه, أن يوحد أنصار هذه الدولة جهودهم في إطار مشروع مدني قابل للبقاء والاستمرار, وكما ناشدت الشباب من قبل, فإني أناشد الآن الكبار بالتوحد, لو تحقق ذلك فقد لا تعود الدولة المدنية المنشودة غدا, وإنما بعد غد ولكن بشرط أن نبدأ اليوم. المزيد من مقالات بهاء طاهر