لو ان ملكا من السماء قد نزل الآن علي ارض ميدان التحرير, سوف يختلف عليه الثوار.. والسبب بسيط للغاية, وهو ان مصر قد دخلت بالفعل الي النفق المظلم ولم يعد احد قادرا علي الرؤية الصحيحة ولا علي تقدير عواقب الأمور. لا أميل الي استخدام مصطلح الموجة الثانية من الثورة المصرية.. وأري ان الحقيقة الواضحة تقول ان هناك محاولات لاستنساخ نسخة ثانية من الثورة.. ودائما ما يكون هناك فارق شاسع بين النسخة الأصلية وبين النسخة الثانية.. وفي هذه النسخة الثانية نكتشف ان هناك تسابق إعلامي علي كسب ميدان التحرير لمواصلة السير بأقصي سرعة الي المجهول الذي يقف متربصا في نقطة ما من هذا النفق المظلم لتصل مصر شعبا وارضا ودولة ووطنا الي نقطة اللاعودة.. تلك النقطة التي نجونا منها ابان زخم وعنفوان ثورة يناير, ولعل هذا تحديدا ما أقصده من أن هناك فارقا كبيرا بين الأصل وبين النسخة. في أحداث ثورة يناير سقط جهاز الشرطة بفعل انه كان اداة القمع الذي اعتمد عليه النظام السابق.. وعلي الفور شرعت الدولة او بقايا الدولة في محاولة لملمة ما تبقي من الشرطة لاعادة البناء من جديد علي أسس مختلفة تماما ومتوافقة مع اهداف وفلسفة ثورة يناير, علي الرغم من صعوبة المهمة التي تستلزم اعادة هيكلة شاملة لمختلف أجهزة وزارة الداخلية التي لابد وان تأخذ فترة زمنية معقولة يعاد خلالها استبدال الثقافة الشرطية القديمة بتلك الثقافة الجديدة التي أفرزتها ثورة يناير, تلك الثقافة التي تعتمد اساسا علي احترام حقوق الانسان واعتماد علاقة ثقة جديدة تحل محل علاقة الشك القديمة. كان الظن أن الثورة قد حققت أهدافها في وضع قواعد وأسس العمل السياسي الي ان تتحقق علي أرض الواقع عملية انتقال السلطة الي المدنيين من واقع العملية المستمرة للخطوات والآليات اللازمة لذلك, وفي مقدمتها الانتخابات البرلمانية ثم وضع الدستور ثم الانتخابات الرئاسية.. وقد كان من المفترض اذا كانت النوايا صادقة ان يتم التركيز علي تحقيق هذه المراحل للوصول الي نقطة الدولة المدنية الديمقراطية التي يرتضيها الجميع, ولكن الواضح ان الرؤي كانت مضطربة ومرتبكة.. ويجب ألا نغفل هنا ان تأجيل الانتخابات التي كان من المفترض ان تتم قبل نحو ثلاثة أشهر, انما كان نزولا علي رغبة القوي الثورية الجديدة التي طلبت مهلة لترتيب اوضاع الأحزاب المعبرة عنها والجديدة علي الساحة السياسية في مواجهة القوي السياسية القديمة وخاصة الإخوان المسلمين.. والغريب ان هؤلاء الآن يتحدثون عن تعمد تعطيل المجلس العسكري لعملية تسليم السلطة متناسين مطالبهم القديمة اعتمادا علي ان الناس قد نسيت ما كان عليه الحال قبل ثلاثة أشهر اضافة الي تلك المظاهرات والمليونيات والاعتصامات والاضرابات المستمرة علي مدي الشهور الماضية والتي عطلت ماكينة الاقتصاد وساعدت علي سيطرة حالة الانفلات الأمني. حدث ماحدث وتم تحديد يوم 28 نوفمبر اليوم الأثنين للبدء في أولي خطوات العملية الديمقراطية من خلال البدء في الانتخابات البرلمانية.. وفجأة وبدون سابق انذار يلتهب الموقف ويتجمع الاسلاميون في التحرير يوم الجمعة 18 نوفمبر بدعوي المطالبة برحيل المجلس العسكري.. اي منطق هذا الذي حرك هؤلاء في هذا اليوم.. والغريب ان السيناريو الذي دارت عليه هذه العملية اعتمد علي ان يفض هؤلاء المتظاهرون مليونيتهم في المساء, علي ان يتبقي في الميدان عدد لا يزيد علي 200 شخص بدعوي الاصرار علي الاعتصام الي ان تتحقق مطالبهم في رحيل المجلس العسكري.. وببقية من الفكر الشرطي القديم كان الحل هو اجبار هؤلاء علي فض الاعتصام في اليوم التالي, وكانت النتيجة الحتمية سقوط عدد من الضحايا ثم تفاقم الموقف وسيطر العقل الجمعي حيث عاد الآلاف الي الميدان مع مطالب محددة برحيل المجلس العسكري. هنا تتضح أبعاد هذه العملية التي تعمدت ابطال العملية الانتخابية وتعطيل التحول الديمقراطي.. ولا يجب هنا ان نغفل عن أن هذه النسخة الثانية من الثورة فقدت تماما ذلك التعاطف من الشارع المصري الذي كان سائدا ابان ثورة يناير, وبالتالي فقدت هذه النسخة المنطق السليم لمطالبها التي وصلت الي حد المطالبة بأن تسقط شرعية المجلس العسكري ويتنازل فورا عن ادارة شئون البلاد الي اشباح مجهولة تسقط الدولة والوطن في مستنقع الفتنة والتناحر والاقتتال علي النحو الذي شاهدناه في الثورة الليبية, وفي المجاذر التي يتعرض لها الشعبان السوري واليمني. هل نسينا الأهداف الشريرة التي سبق اعلانها في23 يوليو الماضي في إسقاط المجلس العسكري. ؟.. وهل نسينا محاولة تكرارها يوم الاحتفال بعيد النصر في6 اكتوبر ؟.. النسخة الثانية من الثورة بدأت بمحاولات مستميتة لاقتحام وزارة الداخلية والسيطرة عليها وبالتأكيد احراقها بما يمثل السقوط الثاني للداخلية الذي لا تقوم بعدها قائمة للجهاز الأمني.. وسرعان ما كشف النقاب عن الهدف الحقيقي وهو إسقاط المجلس العسكري الحاكم الانتقالي الذي يعني سقوط الدولة المصرية ودخول الوطن في دوامة العنف والحرب الأهلية التي ربما تستمر عدة أعوام الي ان تتمكن شخصية ما من اعادة السيطرة علي زمام الأمور مع ضحايا يمكن ان يصلوا الي الآلاف وربما الملايين. مرة أخري.. يتحمل المجلس العسكري المسئولية عن هذا الانفلات السياسي والأمني والأخلاقي من خلال تهاونه وتراخيه في التطبيق الحازم والصارم للقانون في الشهور الماضية وفور توليه مسئولية ادارة شئون البلاد.. تري هل مازالت الفرصة سانحة لإنقاذ مصر من المصير المشئوم. ؟ المزيد من مقالات محمد السعدنى