منذ سنوات بعيدة, تعودنا أن نقول: نعم بدل أن نقول: لا, لكل ما يسلب الانسان حريته وكرامته وحتي إنسانيته, تقبلنا التمييز بين الناس حسب الثروة والنوع والجنس واللون, وزدنا عليها التمييز بين المواطنين علي أساس الدين, وذلك منذ أن تحالف استبداد السادات مع تعصب جماعات التأسلم السياسي, فبدأ مسلسل حرق الكنائس منذ عام2791, إلي أن وصلت حالات الاعتداء علي الكنائس إلي أكثر من مائة وستين جريمة. وأخذت جماعة من المصريين تضطهد إخوانهم في المواطنة بدعاوي التمييز الديني الذي لا يزال بتزايد علي أيدي متطرفين كلما رأيتهم وأفعالهم القبيحة, تذكرت جماعة الكوكلس كلان في الولاياتالمتحدة, ولم يكن التمييز الديني, ولايزال, منفصلا عن الاستبداد بالسلطة, وتجاهل أن الأمة مصدر السلطات, وأن الحق فوق القوة أيا كانت, في وطن ارتبط تاريخه الجميل بشعار: الدين لله والوطن للجميع, ولم ينفصل هذا التاريخ عن معارك الحصول علي استقلال الوطن وحرية المواطنين, واللجوء إلي صرخة الاحتجاج لا التي بدأت صباح الخامس والعشرين من يناير, ولاتزال أصداؤها وموجاتها تتردد في جنبات هذا الوطن, احتجاجا علي سرقة أحلام الشبان والشابات الثائرين الذين رووا ميدان التحرير بدمائهم, لا لكي يأتي من لا يوقفهم أمام قاضيهم الطبيعي, أو من يسرق ثورتهم, وأحلامهم التي أغمض عليها شهداء الشباب عيونهم قبل توديع الحياة, أو يأتي من يرفع علما سعوديا علي أرض ارتوت بدمائهم, أو من يطلق الرصاص علي القوات المسلحة عند ماسبيرو, وعلي المتظاهرين المسيحييين, كي تكون فتنة, تعلو فيها رايات سوداء ملوثة بدماء التمييز الديني والخيانة الوطنية علي السواء. هذا هو مبدأ الرؤية التي صاغها الفنان هشام عبد الحميد في فيلمه التجريبي لا الذي هو أقرب إلي أن يكون صرخة غضب ورفض علي لسان كل مصري ومصرية, يشعران بالحب لوطنهما والخوف عليه, ويلجأ هشام عبد الحميد إلي استخدام فن البانتومايم( التمثيل الصامت) في الأداء الفردي الممتد علي مساحة زمنية تمتد إلي نحو ساعة. يبدأ المشهد الأول من صوت وصورة مارتن لوثر كنج الناشط السياسي الأمريكي الأسود الذي اغتاله دعاة التمييز العنصري ضد السود في الولاياتالمتحدةالأمريكية, ويليه بالصوت والصورة مشهد نيلسون مانديلا الذي قضي أغلب عمره في سجون حكومة جنوب إفريقيا البيضاء إلي أن نقل عنه كل سود جنوب إفريقيا صرخته الرافضة لسياسات التمييز العرقي, فخرج منتصرا من السجن, ووضعته الصرخة التي تحولت إلي صوت الشعب كله علي كرسي الرئاسة الذي سرعان ما تركه بعد أن تعلم منه الشعب قول: لا, وتتابع المشاهد بعد المشهد الأول, متنوعة الدلالة, متوجهة إلي زوايا عديدة, فهي مشاهد لكل منها دلالة جزئية مزدوجة, وجهها الأول علي مستوي الإفراد والثاني علي مستوي الجمع, إلي أن تكتمل المشاهد وتكتمل معها الدلالة الكلية التي يؤكدها تكرار المشهد الأول بالصوت والصورة لكلمات مارتن لوثر كنج ونيلسون مانديلا, فيبدو الأمر كما لو كان هشام عبد الحميد, صاحب الرؤية والمؤدي, يكمل بناء دائريا, ترد خاتمته إلي بدايته, والعكس صحيح بالقدر نفسه, إذ ترهص بدايته بنهايته, كي تتأكد في أذهاننا الدلالة الكلية لهذا الفيلم التجريبي الذي أثار إعجاب من شاهدوه في قاعة العرض الخاصة بالمركز الثقافي الكاثوليكي في القاهرة. وكان جميلا أن يبدأ العرض وينتهي بكلمات مارتن لوثر كنج ونيلسون مانديلا, خصوصا حين يقول الأول, لدي حلم أن يأتي يوم, في ألاباما, يصبح فيه الأطفال السود صبيانا وبنات يدهم في يد الأطفال البيض صبيانا وبنات كإخوة وأخوات, لدي حلم أن يقترب الناس من بعضهم البعض, في كل مسكن, وفي كل ولاية, وفي كل مدينة, وأن نغدو قادرين علي الإسراع بقدوم هذا اليوم, حيث يجتمع خلق الله من رجال سود وبيض, أيا كانوا: يهود وملحدون وبروتستانت وكاثوليك, قادرين علي التكاتف, وغناء الكلمات السوداء الدينية القديمة: الحرية أخيرا... الحرية أخيرا, شاكرين الله علي تحررنا أخيرا... وتأتي كلمات مانديلا الذي يقول: لقد ناضلت ضد هيمنة البيض, وضد استبداد السود, وقدست فكرة الديمقراطية والمجتمع الحر القادر علي التعايش المشترك, وعلي مبدأ تكافؤ الفرص, إنها الفكرة التي أعيش من أجلها كي أراها تتحقق, وأتمني أن يرعي الله تحقيقها قبل أن أموت. وتؤكد الكلمتان أحلام الحرية والعدل والمساواة والديمقراطية والتعايش السلمي المشترك وتكافؤ الفرص بين الناس المتساويين في الحقوق والواجبات, بعد أن خلقهم الله أحرارا كي يعيشوا ويموتوا كراما أندادا في النهاية, ومن أجل هذه الأحلام, وكي لا تتحول إلي كوابيس, لابد من رفض كل ما يحيل الحرية إلي ظلم, والمساواة إلي تمييز, والتعايش السلمي المشترك إلي عداء وحروب, والديمقراطية إلي استبداد وديكتاتورية, ولكي يؤكد هشام عبد الحميد هذه المباديء الجليلة التي تنطقها عبارات مارتن لوثر كنج الذي دفع دمه فداء لها, وضحي مانديلا بأجمل سنوات عمره من أجلها, يصوغ رؤيته الإبداعية الموزعة علي مشاهد متتابعة: أولها: الآلة التي تمارس الحرب والعنف, ولكنها لا تخلو من تضاد في تتابعها. وثانيها: يحث الإنسان عن سلامه الداخليء وسط صخب الحياة بأحداثها المتناقضة المتنافرة. وثالثها: منديل الأمان الذي كان السلطان يمنحه, قديما إلي بعض الرعية, أمانا لهم من بطشه, مقابل إيثار بعض الناس السلامة بعدم المقاومة ورفع منديل الأمان علامة علي استسلامهم, ورابعها: لمحة عاجلة من الصراع العربي الإسرائيلي, المأساة التي تنتهي بضحك كالبكاء, أو بكاء كالضحك. وخامسها: الFacebook بوصفه إحدي أدوات إشعال الثورات العربية والمصرية علي وجه الخصوص, فقد ظل وسيلة التواصل التي جعلت من الاحتجاجات الشبابية ثورة شعبية, ابتداء من موقع خالد سعيد أول الأسباب الرئيسية الفاعلة التي أدت إلي اندلاع ثورة52 يناير. وسادسها: عن الفتنة الطائفية التي تشبه الوحش الذي لن يبقي علي أحد لو أطلقنا سراحه, أو أيقظناه من نومه. وسابعها: عن الصراع الأزلي ضد سيطرة القوي العاتية التي تبدو كالحائط الذي لا يقوي إنسان العالم الثالث المقهور عليه, فلا يملك سوي السخرية منه بأن يجعل منه شاشة أشكال ظلية, تتتابع صورها علي أنغام أم كلثوم, إمعانا في السخرية. وثامنها: الديكتاتورية, حيث المفارقة الضاحكة, بين رغبة الديكتاتور في حجب الحقيقة وإخفائها عن الناس, مقابل الإعلام الوطني الذي يسعي إلي كشفها. وتاسعها: الناس الطيبون الذين يسلبهم الظلم كل شيء, فلا يتركهم إلا عراة, مسلوبي الإرادة, والعقل تستغرقهم مباراة كرة قدم, يرفعون لها علم مصر, قانعين بحالهم, وما يقع عليهم من ظلم إجتماعي واستبداد سياسي. وعاشرها: عن الحجاب ليس بمعناه الديني, ولكن بمعناه السياسي الذي يؤكد الرغبة في إسقاطه من علي وجه الفساد, لكي يري كل إنسان مدي قبحه. والمشهد الحادي عشر: أرض الجزيرة في الزمالك, حيث بروفة أخيرة لأوركسترا في الأوبرا, مع شهداء البحث عن الحقيقة من رجال الصحافة والمراسلين والمصورين. والمشهد الثاني عشر: ولادة صعبة... تضم المشكلات والأوجاع والآلام التي تتصاعد إلي أن يأتي الوقت الذي يولد فيه جنين الثورة. ويأتي بعد مشهد الولادة الصعبة, ورثاء الذين يسقطون أمام الأنظمة الديكتاتورية, مشهد الحدود, طارحا السؤال عن إمكان تحقيق حلم العودة الفلسطيني أو التحرير العربي, فيثير في المتفرج السؤال المضمر عن إمكان تحقق الحلم بكل تداعياته وتوازياته ولوازمه. ويأتي المشهد الأخير ضد كل الأجهزة القمعية التي تضغط علي المواطنين, وتغتال آمالهم, تماما كما اغتالت أصابع الغدر حياة شبابنا في ليالي السبت والأحد والاثنين من الأسبوع الماضي وأخيرا ينتهي فيلم هشام عبد الحميد, كما بدأ, بصوت مانديلا ومارتن لوثر كنج كي نتعلم منها, ومن المشاهد التي رأيناها ما بين البداية والختام, أن نصرخ ضد انتهاك القيم, وضد كل ما يظلم الشعوب ويعوق تحقيق أحلامها التي هي أحلامنا, فنصرخ بحرفي لا لكي نحقق الأحلام, ولكي لا تتحول الأحلام إلي كوابيس, فهذا هو معني رؤية هشام عبد الحميد التي صاغها فيلمه التجريبي مجتهدا في توصيل مشاعره التي فجرتها الأيام المجيدة التي بدأت من الخامس والعشرين من يناير إلي سقوط نظام الاستبداد الذي قال له الشباب الثائر: لا ولا نزال نقولها معهم ضد من يريد أن يسرق ثورتهم التي لا يزال القمع الوحشي يهددها. المزيد من مقالات جابر عصفور