هناك سؤال لابد وأن يواجهنا عندما نقرأ تاريخ مصر.. هذا السؤال خاص بالأدب في مصر في فترة كانت يتألق فيها شعراء بغداد ودمشق,وهو يرتبط بلا شك بسؤال آخر وهو ماذا يحرك المصريين في أي زمن ويجعلهم يكتبون ويتمسكون بالقلم؟ فإذا كانت مصر قد حققت مكانة لا ينافسها عليها أحد في زمن الفراعنة فالأدب قد ظهر كجانب من جوانب هذه الحضارة وان كانت الكلمة العليا تحسب للعمارة والفنون والعلوم, وفي زمن الحضارة البطلمية قبل الفتح الاسلامي كان الأدب والتاريخ والفنون وكل ما يدخل في علوم الدنيا يتردد وبالتفصيل داخل ردهات مكتبة الإسكندرية القديمة ليأتي الفتح الاسلامي بعدها بزمن فيدخل المصريون في دنيا الأدب العربي, وان كانت هناك علامات استفهام خاصة بعصر الفاطميين والأيوبيين ومن بعدهم عصر المماليك والعثمانيين تضعنا في مأزق السؤال..وهو أين كانت مصر من كل ما قدمته بلاد أخري من أدب وشعر, وأين كان المصريون وسط هذا المشهد, هل ضاعت ملامحهم وسط الملامح المغاربية والتركية والنازحة من آسيا الوسطي أم أن للكلمة سطوتها علي العقل والمزاج المصري مهما اختلف الزمن. يستحضر الدكتور بهاء حسب الله في كتابه' شعر الطبيعة في الأدبين الفاطمي والايوبي' صورة مخالفة لكل التوقعات, فالحياة الأدبية قد لاقت ازدهارا في القرن السادس الهجري بمصر ويكفي أن نقرأ ما كتبه ابن أبي الصلت في( الرسالة المصرية), والعماد الأصفهاني في( الخريدة) وابن ظافر في( بدائع البدائة), وابن سعيد في( المغرب) لنعرف مدي ما كانت عليه مصر من سمعة أدبية. ففي الخريدة وحدها يتتبع العماد الأصفهاني منتخبات شعرية لمائة وواحد وأربعين شاعرا من مصر. ولهذا يري الدكتور شوقي ضيف أن أحكاما جائرة صبت علي مصر إذ نعت المؤرخون الأدب العربي في مصر في هذه الحقبة بأنه أدب انحطاط وركود, ويضيف أن مصر لم تشهد حقبا مزدهرة بمقدار ما شهدته في ذلك الزمن. ولهذا يطلق الدكتور أحمد سيد محمد علي ذلك العصر بالعصر الذهبي للأدب العربي بمصر. والجديد ان الشاعر عندما يكتب لم يكن يستطيع الا ان يكون عضوا في المجتمع والطبيعة المصرية التي كانت تشده إلي عالمها. فالشاعر في بر مصر يكتب عن النيل والبحر والسماء في حين تتراجع أمامهم الصحراء التي لم تكن تملك رصيدا كبيرا عند المصريين. والأكثر من هذا أن هناك أشعار تكشف الحالة المعنوية والحياتية للمصريين. فهي ليست مجرد أشعار جامدة, ولكنها تتحرك مع حركة الحياة, فالشاعر المصري عاشق للأرض والنيل ويخاف أن يشهد أعواما من التحاريق ويعبر في شعره عن هذا الخوف والرجاء. فكما يقول الشاعر ابن سناء الملك: بكت مصر بالنيل حتي طغي قديما وغرق أغلي الكتب وتفني الدموع لطول البكاء فالنيل في عامنا قد نضب وأصبحت الأرض محمرة وعن مائها بدلت باللهب وقد قتل الخصب في تربها فمحمرة بالدماء اختضب وخاف البرية موت الصدي وألا يقيموا بموت السغب وعندما تعود المياه لمجاريها ويأتي موسم الفيضان يكتب ابن سناء الملك قصيدة أخري: هنيئا لمصر انها حلها الندي وبشري لمصر أنها جاءها البحر هنيئا لها أن يسر الله يسرها فلا عسر إلا جاء من بعده يسر لقد جاء مصرا نيلها في أوانه فليست تبالي ضن أم سمح القطر وعاد إلي صدر الأقاليم قلبه فعاش ولولا القلب لم يخلق الصدر أبيات وأبيات تحكي عن عصر كانت فيه مصر ترتدي حلة الفاطميين والأيوبيين من الناحية السياسية, أما الأدب فهو عالم خاص أختص به المصريون أنفسهم. فهو القلم الذي كان يحكي به المصريون حكاياتهم. فمن قال أن مصر قد نضب معينها في عام من الاعوام؟ ففي زمن كان الفاطميون يبسطون فيه فكرهم السياسي والديني كان للمصريين بيوتهم وأقلامهم وشعراؤهم وكانوا يعيشون في رحاب الحياة المصرية بتفاصيلها الحميمة. ولهذا لم تختلف كثيرا سنوات الفاطميين عن الأيوبيين الذين كانت حياتهم العسكرية هي المنطق الذي يحكم الأشياء. فكل من جاء إلي مصر عرف أن الله يسر لها.. فلا عسر إلا جاء من بعده يسر, وتلك الأيام نداولها بين الناس...والمهم ان يتذكر المصريون بلادهم.