لابد ألا ينتابنا اليأس في ظل هذه الغيوم الكثيفة وأجواء العنف والتخبط السياسي وصولا للامساك بخيوط إدارة الأزمات واستباق ما تبقي منها. فهناك خطوات سريعة في ادارة الأزمات مثل أهمية الاعتراف السريع بالأخطاء وتصحيحها والشروع في اجراءات بناء الثقة وعدم الوقوع في فخاخ عديدة وتجنب البطء الشديد وما يبدو علي كونه تسلطا أو عنادا أو تجاهلا أو استفزازا. لكن لماذا اندلع العنف ولماذا أخفقنا في تفعيل ثلاث وثائق للأزهر رغم أنها حظيت بنوع من التوافق حولها؟ المشكلة أنه لم توجد أي متابعة وإنهاء جماعي للمهمة بعد كل وثيقة وكل مبادرة علي النحو المطلوب. والأهم هنا هو أن الأزمة تتفاقم لعدم وجود كيان وطني محايد وحقيقي يوفق بين التيارات وينحاز للوطن فقط علي غرار مجموعة سيناريوهات مونت فلير لإدارة واستباق الأزمات كالتي انتشلت جنوب إفريقيا وجاءت من رحم المجتمع المدني وضعتها علي الطريق السليم. وقد سميت كذلك بمجموعة رصد الحقائق والتوفيق وكانوا من الكوادر المستقلة والمتخصصة في إدارة واستباق الأزمات, بحيث تمتلك مثل هذه المجموعات مهارات وتقنيات ادارة الأزمات المركبة وتحقق الوجود عبر التيارات علي اختلافها ويكون لها شكل استمراري محايد وجرئ لادارة حوار وطني حقيقي ومتابعته. وأري أهمية وجود ضمان مشترك في السياق المصري الراهن من القياده السياسية ومن الجيش المصري معا وهذا ليس تدخلا من الجيش في السياسة ولكن لأنه هو ضامن وطني في ظل هذا الوضع المتردي وذلك لما له من رصيد شعبي لا ينكر. في هذا الاطار نريد أن نرسم خريطة ذهنية لفك الاشتباكات الخاطئة بين الأطراف الفاعلة وتحديدها وذلك من خلال ضبط معادلات مفهوم محوري من مفاهيم علم ادارة الأزمات وهو المسافة من السلطة ولقد قدم هذا المفهوم العالم المعروف جيرارد هوفستيد منذ عدة عقود وكان يحاول من خلاله قياس اختلاف الثقافات في جزئية مدي تقبل وتوقع مجموعة ثقافية ما لأن يخضعوا لعدم التوزيع العادل لمصادر القوة والمكانة والثروة ممن يحكمونهم ولقد جعل العالم هوفستيد من هذا المفهوم مؤشرا لقياس اختلاف الثقافات طبقه علي خمسين دولة ومائة ألف شخص من هذه الدول, حيث جاءت دول مثل الولاياتالمتحدةالامريكية وبريطانيا وألمانيا مثلا علي قمة الشعوب التي لا تقبل أن تكون المسافة من السلطة أو ممارسة القوة مرتفعة من قبيل من يقودونهم علي مستوي الدولة والمؤسسات والشركات بل لابد أن تكون منخفضة, لكن ينبغي أن تكون في الحدود الآمنة التي تمنع ممارسة التسلط بكل أشكاله, حيث يكون هناك تفريق واضح بين السلطة ومشروعيتها في ادارة الأمور وتقبل هذا الأمر كقيمة من قيم التقدم بكل الانتظام والانضباط السوي من ناحية وعدم تقبل التسلط والاستعلاء والغطرسة وعقلية الاستيلاء والأحادية بكل اشكالها من الناحية الأخري, بل تصر هذه الشعوب علي ضبط معادلة دقيقة لمسافة السلطة لتكون مقيدة بالقانون وبتوزيع القوة بين السلطات المتعددة وإدارة التنوع في المجتمع حتي لا يحدث الطغيان. لقد وجد هوفستيد أن منسوب المسافة من السلطة مرتفع للغاية في الدول العربية, وأعطانا80 نقطة علي هذا المقياس منذ عدة عقود في دراسته الميدانية, وأتصور انه, واذا كان لدينا فرق بحث وامكانيات كالتي وضعتها شركةIBM تحت تصرف هوفستيد لربما وجدنا أن هذا المنسوب قد هبط رأسيا ودراميا ليكون7 أو8 نقاط فقط وربما بالسالب بعد ال18 يوما الأولي من ثورة يناير.2011 وأصبح لدينا الآن معسكران يقودان مصر معا الي طريق الدولة الفاشلة والعياذ بالله. المعسكر الأول مع كل الأسف هو معسكر ما سمي بالتيار الديني وهو بطبيعة تكوينه وقناعاته يريد أن تكون المسافة من السلطة مرتفعة للغاية( وهذا عكس الفهم الدقيق لصحيح الدين). وفي ظل أجواء شديدة من الغموض بين دور الجماعة ودور مؤسسة الرئاسة ودور الحزب يتناقض هذا الطرف الأول بشكل حاد مع المعسكر الثاني, الذي أصبح لا يضم فقط جبهة الانقاذ, بل يضم ما سمي بالليبراليين والاشتراكيين والمستقلين وكثير من شباب الثورة وحتي حزب الكنبة, حيث المسافة من السلطة بعد الثورة لا تزال في قناعتهم منخفضة للغاية. وهذا ينعكس في النقد الحاد وفي هتافات اسقاط الرئيس. وأمام هذا نجد أن حجة الطرف/ التيار الأول تكاد لا تتجدد وتتجمد عند حجة أن الرئيس منتخب وجاء بالصندوق وأنه لا يمكن تغيير الحكومة ورفض معظم المطالب, مع تسريب آراء أقرب الي العناد والانكار وعدم تنفيذ ما تم الوعد به. إن هناك شعورا بالخوف والتخويف وعدم الثقة لا بد من التعامل بجدية معه لعبور الهوة الكبيرة بين الطرفين الأول والثاني, خاصة مع وجود ما يعرف بالطرف الثالث. وفي هذا المناخ التناحري, أري أهمية أن يتحرك المجتمع المدني والعلمي من خلال طرف رابع لا بد أن يتجمع ويتحرك ليحقق أرضية متوازنة للمسافة من السلطة في المدارس والجامعات والواقعين الاداري والسياسي فلا تكون مرتفعة طاغية أو منخفضة للغاية فتؤدي إلي ضعف مؤسسات الدولة وانفلات الأمور نحو دولة فاشلة. والمطلوب من هذا الطرف أن يسعي بكل جهد لتحقيق معادلة مجتمعية علي المدي القصير والطويل تكون المسافة من السلطة في اطارها متناسبة الانخفاض والتوازن من خلال حقوق والتزامات وتعديلات دستورية وإدارة للتنوع في الوطن, بما يتلاءم مع الاتجاه الصحيح نحو دولة ذات قيادة قوية ومواطن قوي له كل الحقوق ولا تنتهك حرمته نحن بحاجة الي تأكيد أن يكون في مقدمة الطرف الرابع فريق علي غرار فريق سيناريوهات مونت فلير بجنوب إفريقيا بضمان من القيادة السياسية وضمان من الجيش معا كطرف رابع بديل فعال يحسم المعادلة لمصلحة الوطن, بعيدا عن عقلية مبادرات أن وأخواتها, والممارسات السلبية المشار إليها مع شحذ الارادة بالابتعاد عن أجواء التخبط الراهن والرجوع لاستكمال شعار الثورة( تغيير حرية كرامة انسانية) وتفعيل قواعد مقصدية أهمها لا ضرر ولا ضرار.