لعل من الأمور ذات الدلالة في تونس أن الاستثمارات الفرنسية مع نهاية عهد الرئيس المخلوع ابن عليب ظلت لا تنافسها أية استثمارات أجنبية أخري. ووفق آخر إحصاء فإن للفرنسيين1270 مؤسسة اقتصادية تقوم بتشغيل نحو114 ألف عامل ويقدر حجم رؤوس أموالها بنحو2,1 مليار دولار. صحيح أن استثمارات دولة كالإمارات مقدرة بالدولارات تفوق تلك الفرنسية, لكن الأخيرة تتميز بثقلها الإستراتيجي وتغلغلها داخل المجتمع بحكم طبيعة الأنشطة كصناعة النسيج والكهرباء فضلا عن حجم العمالة. ولذا لم تكن صدفة أن تظل باريس مع نظام ابن عليب حتي النفس الأخير, فتشحن الي شواطئ تونس أثناء أيام ثورة14 يناير أدوات قمع المتظاهرين, بما في ذلك قنابل الغاز. وفي تونس العاصمة التقينا بالدكتور افتحي النوريب أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية كي يوضح المزيد من أبعاد التحولات الجارية في بلاده بعد الثورة. كيف يتفاعل الإقتصاد مع تداعيات انتخابات المجلس التاسيسي23 أكتوبر ؟ المستثمر العربي والأجنبي لديهما مخاوف نتيجة عدم وضوح الرؤية السياسية وغياب الإستقرار الأمني. والجميع في إنتظار تداعيات انتخابات23 أكتوبر التي أفرزت وصول الاسلاميين إلي الحكم كي تتضح الرؤية. هناك خطاب مطمئن يتبناه الحكام الجدد بالنسبة للاقتصاد. لكن تجسيد البرامج الافتصادية لهذه الكتلة الفائزة ويتطلب وقتا طويلا, نظرا لعدم درايتها بالواقع و بسبب قلة خبرتها. وماذا عن المستثمر التونسي نفسه؟ متردد ومتخوف. ربما يكون ذلك جراء فتح ملفات الفساد المتورط فيها عدد من كبار رجال الأعمال و الساسة والإدارة ومديري البنوك. هناك حديث عن تنامي ظاهرة ارأسمالية المحاسيبب في زمن ابن عليب. ما حجم هذا التداخل بين المال والسياسة في رأيك؟ الحقيقة أن أسرة بن علي مارست كل أنواع الفساد. بل أخذت في سن التشريعات التي تقنن هذا الفساد. في قطاع الإتصالات الهاتفية مثلا وهو علي جانب كبير من الأهمية والربحية كان صهرا الرئيس اصخر الماطريب وا سليم شيبوبب شركاء في االبزنيس الكبيرب مع أطراف خليجيين. والي أي حد كان المستثمرون الأجانب يشاركون في هذا الفساد؟ كان يجري ذلك بشكل غير مباشر. يقتسمون العمولات في المناقصات العامة الكبري مع وزراء و مديري عموم في جهاز الدولة. ولقد اتضح أن الكثير من العطاءات يجري إرساؤها علي شركات أجنبية بعينها مقابل العمولات. وكم تقدر حصة رجال أعمال ابن عليب في اقتصاد البلاد ؟ هناك تقديرات بأن نصيبهم من الناتج الإجمالي المحلي نحو25 في المائة. وهناك تقديرات بنسب أكبر لأنهم كانوا يسيطرون علي كافة القطاعات الخدمية الريعية من تجارة سيارات و خدمات اتصالات وغيرها. و الملاحظ أنه لم يكن لهم أي وجود في قطاع الصناعة لكنهم تحصلوا أيضا علي ضياع خيالية وأراض زراعية بأسعار زهيدة. هل هناك تقدير بشأن الأموال المهربة الي الخارج ؟ بعد يومين من هروب ابن عليب قدر خبراء دوليون و أساتذة اقتصاد ممتلكات أسرته ورجاله في الخارج بنصيب يوازي60 في المائة من ميزانية الدولة. وأغلب الأموال المهربة في بنوك سويسرا ولبنان ودول الخليج وأمريكا اللاتينية, فضلا عن دول أخري تعمل بمثابة املاذات مالية آمنةب. وعلي أية حال فإن ثروة أسرة ابن عليب جري تقديرها بنحو18 مليار يورو أوروبي. وسيكون من الصعب استرداد أكثر من10% من هذه الأموال المنهوبة بسبب قصور القوانين الدولية. كيف تري تأثير التطورات الجارية في ليبيا علي استثمارات هذا البلد في تونس, خصوصا أن جانبا كبيرا من هذه الإستثمارات يعود الي القذافي وأولاده ؟ لدينا بالقطع استثمارات ليبية كبيرة في مجال السياحة علي نحو خاص. ويظل مصيرها معلق بالموقف السياسي للحكومة الجديدة في ليببا هذه الأمور تنتظر قرارا سياديا من طرابلس الغرب. وماذا عن الطموح الفرنسي في الدخول بقوة الأسواق الليبية؟ فرنسا لا يمكنها الدخول الي الأسواق الليبية إلا عبر بوابة تونس ومؤسساتها. وهذا ما يشغل الفرنسيون حاليا. فالتوانسة كما تقولون في مصر لهم دراية فائقة بالاسواق الليبية وبعقلية الليبيين وهم يعرفون اللغة الفرنسية وسلوك المستثمر الفرنسي. هل تؤدي تحولات الثورة التونسية الي مراجعة الدور المتعاظم لرأس المال الخاص في الإقتصاد علي طريقة الليبرالية الجديدة؟ عند تولي ابن عليب رئاسة البلاد ورث نوعا من ارأسمالية الدولة من سلفه الرئيس االحبيب بورقيبةب. كان القطاع الخاص يسهم بأربعين في المائة من الناتج المحلي. ومع رحيله أصبح يسهم بنحو ثمانين في المائة. لكن يخطئ من يتصور بأن إقتصاديات تونس خضعت لعملية ليبرالية اقتصادية تامة. فمازالت الدولة تسيطر علي40 في المائة من الإقتصاد. هناك تفسير لمعدلات البطالة المرتفعة في تونس يقول إن نظام ابن عليب كان يروج لأرقام غير صحيحة ففزع الناس عندما قرأوا الأرقام الحقيقية بعد الثورة ؟ النسبة الحالية هي20 في المائة من قوة العمل. وكان ابن عليب يدعي انها13 في المائة فقط. و علي أية حال, فقد كان لدينا قبل14 يناير الماضي نصف مليون عاطل واليوم أصبحوا700 ألف( في بلد تعداده5,10 مليون نسمة). لكنني أري ان تطورات سلبية بعد الثورة دفعت الي زيادة البطالة فعلا. خذ مثلا أن لدينا نحو مليون تونسي خارج البلاد عاد منهم200 ألفا من ليببا بسبب التطورات الجارية هناك. وهنا أود أن أقول ان ليبيا تظل بمثابة اأوكسجينب الاقتصاد التونسي. فخمسة في المائة من صادراتنا تذهب اليها. وفي شهري أغسطس وسبتمبر عادت هذه الصادرات للإرتفاع. وهذا من بوادر إنفراج الأزمة. ماهي المدة التي يحتاجها الإقتصاد التونسي كي يتعافي ؟ أظن أن وضوح الوضع السياسي وتحقيق الإستقرار الأمني يتطلب نحو العامين. ولكن ليس قبل5 سنوات يمكن الحكم علي نجاح أو فشل الثورة من الناحية الإقتصادية. ونحن في هذه المرحلة نعيش فترة إنقطاع نمو لا مجرد ضعف في النمو. وتتطلب معالجتها سياسات إقتصادية تعتمد بالأساس علي تدخل الدولة لإعادة النمو الي معدلاته(6 في المائة). وفي ظني أنه من أكبر معوقات النجاح الإقتصادي للثورة هو دور أنصار الثورة المضادة في السياسة والإقتصاد, وتحديدا في جهاز الإدارة. لدينا جيل ثاني من ذيول النظام داخل الإدارة. وهم علي إستعداد لشل أية مبادرات لتطوير البلاد. بالطبع ليس من السهل التخلص تماما من نظام استبدادي وإقتلاعه من جذوره. وفي تونس فإن المشهد السياسي الجديد قد يؤثر علي الاقتصاد. كيف سيتم إعادة بناء جهاز الدولة وكافة ومؤسساتها علي أسس جديدة هذا السؤال المطروح اليوم ؟.