هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة الأحزاب, وهي سورة مدنية, وآياتها ثلاث وسبعون(73) بعد البسملة, هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الأحزاب, وما جاء فيها من التشريعات, والعبادات, والأخلاق, وركائز العقيدة, ونخص هذا المقال بأوجه الإعجاز التاريخي والإنبائي والتربوي في إشارات القرآن الكريم إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة وفي غيرها من آيات هذا الكتاب المجيد التي ذكرت خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم أو أشارت إلي شخصه الكريم, وفي مقال سابق استعرضنا ميلاده الشريف ونشأته المباركة, ونستكمل هنا بقية سيرته الشريفة, وما فيها من الدروس والعبر. البدء بدعوته الشريفة: بدأ رسول الله صلي الله عليه وسلم يدعو إلي الإسلام سرا, واستمرت الدعوة ثلاث سنوات, وكان أول من آمن به من النساء أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالي عنها , ومن الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه , ومن الصبيان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجاء من بعد هؤلاء كل من عثمان بن عفان, وطلحة بن عبيد الله, وسعد بن أبي وقاص, وورقة بن نوفل, وأبو ذر الغفاري, والزبير بن العوام, وعمر بن عيينة, وسعد بن العاص, وغيرهم ممن رباهم رسول الله صلي الله عليه وسلم علي التوحيد الخالص لله تعالي . وراح الإسلام ينتشر في مكة سرا, وكفار قريش لا يعبأون به, ظنا منهم بأن محمدا صلي الله عليه وسلم قد تأثر ببعض الأحناف في مجتمعه, ثم جاءه جبريل عليه السلام بالأمر الإلهي بالجهر بالدعوة قائلا له: وأنذر عشيرتك الأقربين, واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين, فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون, وتوكل علي العزيز الرحيم, الذي يراك حين تقوم, وتقلبك في الساجدين, إنه هو السميع العليم( الشعراء:214 220). وفي ذلك أيضا يقول ربنا الكريم موجها الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون( الأنعام:51). ويقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس, إن الله لا يهدي القوم الكافرين( المائدة:67). ويقول: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين( الحجر:94). وهنا دخلت الدعوة مرحلتها العلنية, وبدأ الصدام بين الإيمان والكفر, وبين التوحيد والشرك لتبلغ المعركة ذروتها علي مدي عشر سنوات كاملة. هجرة المسلمين إلي الحبشة: لما اشتد إيذاء الكفار والمشركين لرسول الله صلي الله عليه وسلم ولمن آمن برسالته أمر بعض أصحابه بالهجرة إلي الحبشة في السنة الخامسة من بعثته الشريفة, فهاجر إليها ستة عشر مسلما من الرجال والنساء, ثم تبعتهم هجرة ثانية إلي الحبشة, ضمت ثلاثة وثمانين رجلا وتسع عشرة امرأة من المسلمين والمسلمات. وعندما علم كفار ومشركو قريش بهجرة المسلمين إلي الحبشة حاولوا الدس لهم عند النجاشي ملك الحبشة, وطالبوه بردهم بدعوي خروجهم علي دين آبائهم, وعدم دخولهم في دين النجاشي, واستعانوا علي ذلك بمحاولة رشوة النجاشي بالهدايا, ولكنه كان رجلا عاقلا فأرسل إلي المهاجرين يسألهم عن دينهم وعما يقول هذا الدين في عيسي بن مريم فقالوا: إنه عبدالله ورسوله, وروح من الله تعالي وكلمة منه ألقاها إلي مريم العذراء البتول, فأخذ النجاشي عودا صغيرا من الأرض وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتي آخذها منكم, ولا أطاع الناس في حتي أطيعهم فيه. إسلام نفر من أشراف قريش: ثم أعز الله دينه, وأيد رسوله بإسلام كل من عمر بن الخطاب وحمزة بن عبدالمطلب, وهما من أشراف قريش, فبدأ الكفار والمشركون باستشعار خطر الدين الجديد علي سلطانهم, فعقدوا معاهدة بينهم لحصار المسلمين ومقاطعتهم, وعلقوها في جوف الكعبة تعظيما لشأنها, وكانت نصوص المعاهدة تقضي بالمقاطعة الكاملة للمسلمين بيعا وشراء وزواجا وتزويجا, واضطر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي اللجوء مع من آمن معه إلي شعب بني هاشم, وانحاز إليهم في هذا الشعب بنو عبدالمطلب( مؤمنهم وكافرهم باستثناء أبي جهل) واستمر تضييق الحصار علي المسلمين ثلاث سنوات كاملة, حتي أكلوا أوراق الأشجار, والوحي يتنزل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم بالصبر والاحتساب, وظل الحال كذلك حتي ثار أحد الغيورين من زعماء قريش علي هذا الحصار, فأبطلت قريش معاهدة الظلم تلك, وفك الحصار عن المسلمين. الذهاب إلي الطائف: في العام العاشر من بعثته الشريفة فقد رسول الله صلي الله عليه وسلم كلا من زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب, وقد أطمع ذلك كفار ومشركي قريش في رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي من آمن معه من المسلمين, فاشتدت وطأتهم علي عباد الله الصالحين إلي الحد الذي اضطر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الخروج من مكة قاصدا الطائف, يلتمس النصر من قبيلة ثقيف, ولكنهم أساءوا استقباله طوال عشرة أيام قضاها بينهم, وحينما قرر العودة إلي مكة سلطوا غلمانهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة حتي أدموا قدميه الشريفتين, فوقف يستجمع قواه عند بستان لبني ربيعة, وتوجه إلي الله تعالي بدعاء يهز العقل والقلب معا ويقول فيه: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني علي الناس, يا أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين, وأنت ربي, إلي من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني؟ أم إلي عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن تنزل بي غضبك, أو يحل علي سخطك, لك العتبي حتي ترضي, ولا حول ولا قوة إلا بالله. ووقعت أحداث عديدة لا يتسع المقام لسردها, ثم توجه رسول الله صلي الله عليه وسلم قاصدا مكة فدخلها في حماية أحد المشركين هو المطعم بن عدي. وتأتي الآية الكريمة التي اتخذتها عنوانا لهذا المقال مؤكدة صدق نبوته, وأنه صلي الله عليه وسلم خاتم النبيين, فليس من بعده نبي ولا رسول, والتاريخ المدون يسجل ذلك, فقد ثبت كذب كل من ادعي النبوة بعد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وهنا تتجلي ومضة الإعجاز الإنبائي والتاريخي في قول ربنا تبارك وتعالي : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما( الأحزاب:40). كما تتضح أوجه الإعجاز التربوي في السيرة الشريفة لهذا الرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم ولصحبه الكرام وهي السيرة التي يجب أن يتأسي بها كل مسلم ومسلمة. المزيد من مقالات د. زغلول النجار