في إطلالة جديدة علي المشاهد العربي عبر قناة الجزيرة رسم الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل لوحة نابضة بالحياة للعالم في لحظته الراهنة, بدا فيها هذا العالم مرهقا بالديون ومفتقدا الأفكار الملهمة والشخصيات القائدة. عالم لم تعد قوته العظمي الوحيدة الولاياتالمتحدة قادرة علي أن تتصرف وحدها في شئونه وهو أي العالم لايزال يبحث عن شيء ما يغير به واقعه الحالي لكنه لم يجده بعد أو ليست هناك بشائر لظهوره. إطلالة هيكل التي بدأت الليلة قبل الماضية وتتواصل علي مدي3 حلقات متتالية ركزت علي تشخيص الكاتب الكبير لأبرز ملامح الوضع الدولي حاليا كمدخل للحديث في الحلقتين التاليتين عن الربيع العربي وتداعياته ثم المشهد المصري وهمومه. استهل الأستاذ حواره قائلا: لا أريد أن أستخدم الكلمات المألوفة التي فقدت معناها وأقول إننا أمام لحظة خطيرة لكنني أقول ببساطة إننا أمام لحظة في المجتمع الدولي أو العالم مختلفة تماما ولا نشهدها كثيرا.. وهي لحظة من تلك اللحظات التي تتحدد فيها مسارات ومصائر. أولي سمات هذه اللحظة أننا لسنا أمام صراع قوي أو توازن قوي بل أمام صراع مصالح ليست له حدود سياسية ومناخ مختلف. ويتابع هيكل: نحن أمام عالم تجري صراعاته بطريقة أخري مختلفة عما كان يحدث من قبل عندما كانت هناك وسيلتان: الدبلوماسية أو الحرب, فإذا فشلت الدبلوماسية تكلم السلاح. وهناك عدة عناصر يقول هيكل توضح ذلك: أولا: نعيش في عالم استحال فيه استخدام الحرب( الشاملة) بسبب التوازن النووي وبالتالي أصبحت هناك وسائل أخري لممارسة( ادارة) الصراعات. ثانيا: كما أن العالم تحكمه القوة, فإن النظريات والأفكار تتحكم فيه.. وقد كثر الحديث عن اقتصاد السوق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. وأنا اعتقد أن نظرية اقتصاد السوق حدث فيها خلل لسبب بسيط, وهو أننا, ولأول مرة في تاريخ البشرية, أصبحنا نشتري ما لا حاجة لنا به وندفع بما لا نملكه ولهذا دخلنا في مشكلة من نوع غريب للغاية. ويشرح الأستاذ الكبير فكرته قائلا: في الماضي كانت اقتصادات السوق تعتمد علي منتج ينتج سلعة ويحاول بيعها إلي طرف يحتاج إليها وهو لديه ما يشتري به.. هذه النظرية اختلت جدا, فقد أصبح من الممكن الآن إيجاد طلب عن طريق الإعلان أو السفر أو وسائل أخري علي سلعة لا يحتاجها الناس الذين يشترونها بوسائل لا يملكونها أي بالديون. ودخلنا لأول مرة في عالم مرهق بالديون وينطبق هذا علي الأفراد كما الدول. ويواصل هيكل: لو أخذنا أمريكا كمثال لدي كتاب صدر حديثا يشير إلي أن كل مواطن أمريكي كان يدخر10 % من دخله قبل15 عاما, أما الآن, فان كل أمريكي مدين ب10 % من دخله. هذا علي مستوي الفرد أما علي مستوي الدولة, فإن الولاياتالمتحدة مدينة ب41 تريليون دولار أي أكثر من دخلها القومي.. كما أن دولة مثل مصر تدفع25 % من الميزانية كفوائد للديون وليس حتي الأصول الديون, والخلاصة أن كل دول العالم مديونة بما يوازي دخلها القومي. ويخلص الأستاذ هيكل من هذه النقطة إلي أن العالم كله يسير بالديون ويعمل بالديون ويتاجر بالديون. المدير الشاطر بدلا من القائد ثم ينتقل الحوار بين الأستاذ هيكل والإعلامي محمد كريشان علي قناة الجزيرة إلي نقطة أخري تتعلق بالقوي الذي تدير شئون العالم, حيث رأي هيكل أن العالم باستمرار كان يحتاج إلي دول تقوده.. الامبراطورية البريطانية قامت بهذا الدور ثم ظهر إلي جانبها فرنسا, وبعد ذلك ظهرت أمريكا والاتحاد السوفيتي في العصر الحديث. الآن يلاحظ هيكل لم تعد هناك دولة قائدة.. الاتحاد السوفيتي اختفي, وأمريكا لأنها أغني وأقوي فهي موجودة, وهي إلي حد ما الطرف القادر علي أن تقاوم إلا أنها في هبوط وتراجع مع استمرار الصراعات. ويشرح الكاتب الكبير فكرته بشكل آخر: المجتمع الدولي بحاجة إلي قوي تستطيع تنظيم صراعاته وأحواله.. دولة قائدة أو مجموعة دول قائدة, لكن ذلك لم يعد موجودا الآن, وليس هناك في الأفق ما يشير إلي دولة صاعدة أو قوي صاعدة. ويستطرد: إذا كنا نتكلم عن القوة التي تضبط فهذه موجودة لكن قدرة واشنطن علي السيطرة انتهت.ويقارن هيكل بين احتلال بوش الأب لبنما للاطاحة بالجنرال مانويل نورييجا في نهاية الثمانينيات وبين دور أمريكا في الحرب علي ليبيا, حيث اختلف الأسلوب وكان هناك تعبير شهير هوbackdriving أي القيادة من الخلف, لم يكن هناك جندي أمريكي علي الأرض. وجري استخدام الصواريخ الموجهة والطائرات بغير طيار. وحسب الكاتب الكبير: أمريكا لاتزال الأقوي, لكن هناك فرقا بين من يمارس قوته الامبراطورية بما لديه من وسائل ومن يعمل بأسلوب المقاول الذي يرتب الادوار للآخرين الفاعلين, ولذلك فإن أمريكا انتقلت من وظيفتها وهي الفاعل القادر إلي المدير الشاطر. أوروبا موجودة.. ولكن! وردا علي سؤال عما إذا كان الاشكال في الرأسمالية أم العولمة؟ قال هيكل: العولمة حالة موجودة.. ظاهرة من ظواهر الطبيعة وهي ظاهرة تاريخية لا يستطيع أحد أن يحاول فيها.. نحن نتكلم عن الرأسمالية.. فالرأسمالية الأمريكية مثلا نقلت مواقع انتاجها إلي الصين وماليزيا والهند والبرازيل, هذه الرأسمالية تصورت أنها انتصرت وأنها تستطيع أن تتحرك في العالم كله, لكنها نسيت أن سيادة الدول مازالت موجودة.. لها بقايا.. هناك عولمة عابرة للقارات لكنها تحدث في دول موجودة وذات سيادة, أما الرأسمالية فأمر مختلف, فقد تصورت انها حققت انتصارها النهائي وهو ما لم يحدث. وخلص هيكل إلي أننا لا نزال نبحث عن شيء ما مختلف لم نجده بعد وليست له بشائر حتي الآن. ويتطرق الحوار إلي وضع أوروبا الراهن, حيث يلفت هيكل الانتباه إلي أن أوروبا تعلمت لفترة طويلة الاعتماد علي أمريكا في مواجهة الاتحاد السوفيتي واعتمدت علي الدولار ثم ها هي تعتمد علي ألمانيا لحل أزمة اليورو. وإذا كان من الممكن القول إن امريكا تقود, فإن أوروبا هي القوة المساندة. ويتابع: أوروبا المنشغلة بأزمتها الاقتصادية تبدو بلا إرادة ولم تستطع أن تحسم شيئا حتي في بلد هامشي مثل ليبيا, فالجزء الأوروبي من حلف الأطلنطي وقف عاجزا, حيث اكتشفت فرنسا وانجلترا أن هناك حدودا لقوتيهما, وقد اشتركتا في حاملة طائرات واحدة خلال الحرب علي ليبيا بينما كان لأمريكا4 حاملات طائرات. أوروبا, اذن حسب الأستاذ موجودة لكنها ليست بالقدرة المتصورة عنها. الصين ليست جاهزة وينتقل هيكل إلي تقييم وضع الصين ليقول: رغم كل ما حققته مازالت الصين تواجه مشاكل كثيرة, فقوة اقتصادها أقل من نصف قوة الاقتصاد الأمريكي مع ان عدد سكانها51 مليار نسمة, بينما امريكا أقل منها في عدد السكان5 أو6 مرات. ثم إن النمو الاقتصادي الباهر موجود علي السواحل وفي شرق الصين أي أن الثراء لم يصل بعد إلي الداخل. ويواصل الكاتب الكبير قائلا: الصين ليست جاهزة بعد, لكنني أعتقد أنها قد تكون من القوي التي ستقود العالم. وهي الآن تقدم تجربة تستحق الدراسة في التنمية والإدارة والفصل بين رأس المال والملكية, لكن انت أمام ظاهرة تستحق المراقبة إلا أنها غير قابلة لأن تكون نموذجا لأسباب كثيرة تتعلق بخصوصية الصين( القيم الكونفوشية) والنظام الشيوعي. ويلاحظ الأستاذ أن مواقف روسيا والصين الأخيرة بشأن الشرق الأوسط كانت تستهدف ايصال رسالة إلي أمريكا بأنها لن تستطيع أن تنفرد بالعالم اكثر من كونها تهدف إلي الوقوف إلي جانب دول المنطقة كسوريا مثلا, وهناك احساس لدي الدولتين بأن الأمريكان يحاولون فرض سيطرتهم علي العالم بأكثر من قدرتهم. ويقول هيكل إن عودة روسيا لممارسة دور دولي لابد أن يكون بوسائل حقيقية وليس بالكلام فقط, كما هو حادث الآن. ماذا يفعل أوباما؟ ..ولأن الحديث تناول المواقف الصينية والروسية من الشرق الأوسط فإن الاستاذ تحدث بشكل سريع عن التأثير الدولي علي المنطقة أن يعود في حلقة حوارية ثانية للحديث بشكل تفصيلي عن أوضاعها, ويشير هيكل إلي ازمة الأنظمة الموجودة حاليا والمعرضة للسقوط ترجع إلي أنها اكتشفت مؤخرا ان ما كانت تعتمد عليه قد تغير وأن هؤلاء الحكام الذين بدوا أقوياء تركوا في الهواء. ويلاحظ أن المنطقة متروكة لاختصاص أمريكا التي لها مصالح كبيرة جدا, ويضيف: أمريكا موجودة عندنا أكثر من اللازم ونحن مهتمون بها أكثر من اللازم. ويختتم الكاتب الكبير حواره في الحلقة الأولي بالحديث عن افتقاد العالم حاليا لزعماء وقادة ملهمين, لأن الملامح التقليدية للصراعات اختلفت ولم تعد تسمح بظهور مثل هذه القيادات. ويسلط هيكل الضوء علي حالة الرئيس الأمريكي باراك أوباما ويتساءل: ماذا جري لهذا الحلم؟..لقد كان تجربة انسانية رائعة رغم أنني لم أعول عليه سياسيا بشكل كبير.. هذا الرجل لا يقف إلا ليعلن عن عملية قتل.. حدث هذا مع اسامة بن لادن وأنور العولقي( زعيم القاعدة في اليمن) والقذافي. ويضيف: انتظرته مبشرا وكذلك الناس في العالم لكنه ظهر كصفحة وفيات.