لا شك في أن ما تمر به مصر الآن يثير الكثير من القلق والإحباط معا. فبعد ما يقرب من ثمانية أشهر علي ثورة25 يناير, لا يزال المشهد السياسي تعتريه الكثير من الصراعات التي باتت تهدد كيان الدولة وطبيعتها وليس فقط استقرارها, فالحاضر متعثر والمستقبل غامض. صحيح أن هناك حراكا سياسيا ملحوظا, إذ تشكلت أحزاب جديدة تعبر عن مختلف التيارات والاتجاهات, إضافة إلي الحركات والائتلافات والتجمعات التي تعبر عن جيل جديد في السياسة المصرية. كما حصلت القوي الإسلامية لأول مرة, بتوجهاتها المختلفة, من إخوان مسلمين وسلفيين وجماعات أخري علي الاعتراف القانوني بها, والحق في تشكيل أحزابها المعبرة عنها. كذلك أعطي الحق نفسه لبعض الأحزاب التي كانت تنتظر ضمن قائمة طويلة لم تعط هذا الحق, سواء أحزاب جديدة كانت تسعي للتأسس, أو كتل حزبية انشقت عن أحزاب تم اختراقها وتقسيمها من الداخل. كما شهدت الصحافة وجماعات المجتمع المدني تقدما نسبيا. ولكن هناك إلي جانب ذلك إضرابات شبه يومية, ومطالب فئوية لا تتحقق, ومظاهرات واحتجاجات مستمرة, وتذمر واضح من الحالة الاقتصادية والاجتماعية, واعتقالات, والعودة إلي حالة الطوارئ, وشعور عام بعدم التغيير في ظل حكومة ضعيفة تفتقر إلي الطابع السياسي, ولا تقوي علي إدارة مرحلة انتقالية معقدة بكل المعاني. ثم وهو الأخطر استمرار التوتر الطائفي الذي بلغ ذروته في أحداث ماسبيرو الأخيرة التي ستظل علامة فارقة في مسار السلام الاجتماعي والتعايش الآمن بين شركاء الوطن الواحد. وبشكل عام, فإن مظاهر التوتر الطائفي التي تصاعدت في ظل التجاذبات السياسية الحالية أثارت مجددا المخاوف من تنامي قوي الإسلام السياسي عموما, وسيطرتها علي المشهد السياسي والاجتماعي, بغض النظر عن مسئوليتها الجنائية المباشرة فيما وقع من أحداث. ولكن بحكم ثقافة متطرفة تقوم علي التمييز, بدأت تشكل اتجاها عاما يجد من يؤيده, أو علي الأقل, لا يقاوم في الأجهزة البيروقراطية أو الجهات التنفيذية في الدولة. وهذا الخوف من شيوع ثقافة التطرف ربما كان العامل الحاسم في تعجيل المجلس الأعلي بإصدار قانون منع التمييز. ولذلك, ستظل الخطورة الحقيقية في هذه المرحلة ليس في مجرد وضع جدول زمني لنقل السلطة من المجلس العسكري, الذي يدير البلاد الآن, إلي سلطة مدنية منتخبة, وإنما في حالة راهنة متسمة بالفوضي وفاقدة للاتجاه. فنجاح المراحل الانتقالية في عمر الشعوب, الدولة والمجتمع معا, لا يقاس فقط بعنصر الزمن, وإنما بوجود رؤية واضحة, وخطوات محددة, وقواعد تسير بموجبها الأمور, أو نموذج محدد تسعي إلي الوصول إليه. وربما كان قرار تأجيل وضع دستور جديد, فور نهاية حكم مبارك, هو مظهرا من مظاهر هذا الارتباك أو غياب تلك الرؤية, سواء علي مستوي النخبة أو المجتمع. فلم يكن هناك بديل متوافق عليه سوي شعارات عامة عن الديمقراطية دون رغبة حقيقية في الدخول في تفاصيلها, أو تجنب للخوض في قضاياها الجوهرية التي لا تزال خلافية, وتثير من النزاع أكثر مما توجبه من توافق. فمثلا هناك نموذج الديمقراطية الليبرالية علي النمط الغربي الذي يعني تلقائيا إقامة نظام تعددي, واحتراما لحقوق الإنسان, وعدم التمييز, وإعلاء قيمة الحريات الفردية, والأخذ بنظام الاقتصاد الحر, وفصل الدين عن الدولة, أي حيادية الدولة تجاه جميع الطوائف التي يتشكل منها المجتمع, مع ضمانها لحرية الأديان, وممارسة الشعائر الدينية دون خلط بين وظائفها العامة ودورها السياسي والاجتماعي, وبين صبغ سياستها بمظاهر دينية. ولذلك, ليست هناك خلافات كبيرة بين دساتير الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية وغيرها من النماذج التي سارت علي هذا النهج في تحولها إلي الديمقراطية, مثل أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية أو اليابان أو غيرها. وفي العالم الإسلامي, تعد تجربة تركيا هي الأبرز. فبعد انهيار نظام الخلافة العثمانية, كان البديل واضحا عقب إعلان النظام الجمهوري, وهو تأسيس دولة قومية حديثة وعصرية ترقي إلي مصاف الدول الغربية المتقدمة. وقاد مصطفي كمال أتاتورك تلك التجربة, وتم التفريق بوضوح بين السلطتين الدينية والسياسية اللتين كان يمارسهما الخليفة, وهو النهج الإصلاحي الذي تمتد جذوره إلي القرنين ال18 وال19 في زمن الإمبراطورية, كما أخذت تركيا بالنظام الرأسمالي. وإذا كانت هذه التجربة قد شابها بعض القصور في الجانب السياسي في مرحلتها الأولي, فإنها استكملت تجربتها المتميزة في العقود الأخيرة من خلال إقرار نظام ديمقراطي تعددي يدمج جميع الطوائف والتيارات والقوي السياسية, وفي مقدمتها القوي الإسلامية. لذلك, ظلت الحركة الإسلامية التركية تمتاز بدورها بخصوصية واضحة. فالقضية لا تكمن في إدماج أو إقصاء قوي سياسية بعينها بقدر ما تكون في إقامة أسس وقواعد سليمة تحكم التجربة برمتها من خلال دستور يحدد المسار ويحتكم إليه, إضافة إلي ثقافة عامة تؤيده وتلزم جميع الأطراف بالالتزام بقواعد اللعبة. وهو ما يفسر اختلاف نهج حزب العدالة والتنمية الإسلامي, بقيادة رجب طيب أردوغان, عما سبقه من أحزاب إسلامية برزت في الثمانينيات, وقادها نجم الدين أربكان الذي عبر عن الاتجاه التقليدي للحركة منذ تأسيسه أول حزب إسلامي النظام الوطني(1974), الذي كان أول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة, منذ زوال الخلافة في1924, ثم لحزب الوفاء الوطني(1983), و الفضيلة, و السعادة(2000 و2003), وترأس أكثر من حكومة ائتلافية, مثلما اعتقل أكثر من مرة, بحكم صدامه المتكرر مع الجيش, وعدم قدرته علي التواؤم مع طبيعة الدولة والمجتمع.. حتي جاء حزب أردوغان ليقدم تجربة مختلفة, ويكون أكثر عصرية, والأهم أكثر توافقا مع الثقافة العامة التركية, واحتراما لقواعد اللعبة ففاز وهو حزب إسلامي بأغلبية ساحقة في أول انتخابات برلمانية يخوضها(2002) وفي ظل نظام علماني. والواقع أن نجاح حزب العدالة والتنمية, وفق شروط الديمقراطية الليبرالية العلمانية, لم يقم علي مجرد رفعه شعارات إسلامية أو دينية حماسية, وإنما بقوة أدائه وإنجازاته, خاصة علي الصعيد الاقتصادي والتنموي والخدمي. إذن, التحول من إمبراطورية مهزومة متخلفة إلي دولة ديمقراطية رأسمالية عصرية قوية هو النموذج الذي تقدمه تركيا; فالعلمانية كانت جزءا أصيلا من حل المشكلات المعقدة التي واجهها المجتمع التركي للانتقال من حال إلي حال أفضل, وليست سببا للمشاكل والصراعات, كما هو الحال في كثير من التجارب العربية التي لا تريد أن تخرج من إطار التفكير المغلق. ولذلك, عدت تصريحات أردوغان الأخيرة أثناء زيارته لبعض دول المنطقة وفي مقدمتها مصر صادمة عند كثير من قيادات الحركة الإسلامية بسبب دفاعه الواضح عن النظام العلماني للدولة التركية. تكمن أهمية النموذج التركي بالنسبة للعالم العربي في أن إحدي أهم قضاياه الكبري ترجع إلي تعقيد تلك العلاقة بين الدين والسياسة. كما تكمن أهميتها أيضا في أن ذلك يؤثر بشدة في سياسيات أي دولة. فإذا لم يتم التوافق علي صيغة مرضية في هذا السياق, فسيكون من الصعب مواجهة مشكلات التوتر الديني والطائفي الذي تعانيه المجتمعات العربية ومصر. وتكتسب الإشارة إلي هذا النموذج الديمقراطي الليبرالي أهميتها في ظل حقيقة تنوع المجتمع المصري تاريخيا, والتي تعد أبرز عوامل ثرائه, إضافة إلي أن مصر كانت لديها تجربة ليبرالية تحديثية مهمة خلال النصف الأول من القرن العشرين. إلا أنه في المقابل, فإن ثقافة التطرف الديني التي اجتاحتها خلال العقود الأخيرة تكون هي عائقا رئيسيا في مواجهة هذا النموذج. لذلك, فإن العامل الحاسم في تحديد طبيعة النموذج الذي تنتهجه مصر في المرحلة المقبلة هو اختيار المجتمع السياسي بين الحفاظ علي طبيعته التعددية التاريخية, باعتبارها أداة للاستقرار والتقدم, أو الانحدار إلي نموذج مناقض تكرسه مساعي نفي الأخر, وهو الخطر الأكبر الذي يواجه مصر في تلك المرحلة. وبغض النظر عن مدي إمكانية أو عدم إمكانية استلهام هذا النموذج الذي لا يزال يثير خلافات عديدة في التجربة المصرية والعربية عموما, ومع الاعتراف بعدم تطابق النماذج أو استنساخها, فالسؤال الجوهري هو: هل هناك نموذج آخر نهدف إلي الوصول إليه, حتي علي المستوي الاقتصادي, علي غرار نماذج دول جنوب شرق آسيا التي كان يطلق عليها النمور الآسيوية علي سبيل المثال؟ أو هل هو نموذج الصين؟ أو هل هناك أي نموذج آخر خاص بنا؟ إن تحقيق بعض المطالب الجزئية, وحتي إجراء الانتخابات في موعدها, لن يغني عن وجود رؤية واضحة تحدد شكل التجربة المقبلة, وهو أمر يجب أن يتوافر في المرحلة الانتقالية, كما جري في جميع التجارب الناجحة التي مرت بظروف مماثلة, وإلا تحولت تلك المرحلة إلي مجرد مرحلة انتظار لما قد يأتي, ولا نعرفه بالضبط. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى