نحن أمة لنا مع الشهادة والشهداء تاريخ طويل, محفور علي أرضنا جيلا وراء جيل هذا قدرنا ونحن به راضون, لا نكتفي بذرف الدموع علي كل شهيد منا, وإن كانت دموعنا لا تجف. ونحرص في الوقت نفسه علي إعداد ألوان التكريم والتقدير لتخليد كل الشهداء في مناسبات عديدة, ومنها أيام الميلاد أو الرحيل كشهداء, وإطلاق أسماء شهدائنا علي الشوارع والميادين والأنفاق وقاعات العلم, وتخصيص أوسمة عديدة بأسماء شهدائنا وإقامة نصب تذكارية. وإذا كان جيلنا يتذكر جيدا الفريق عبد المنعم رياض الذي اختير يوم استشهاده(9 مارس1969) كيوم لتخليد كل شهداء مصر, وإذا كان جيلنا يتذكر جيدا اللواء مهندس أحمد حمدي أحد عمالقة وحدات الكباري بسلاح المهندسين في حرب اكتوبر1973 وقد أطلق اسمه علي النفق الذي أقيم في موقع استشهاده. إذا كان جيلنا يتذكر جيدا مثل هؤلاء الشهداء, فكم من سكان وشباب حي عابدين علي سبيل المثال يتذكرون الشهيد أحمد عبد العزيز أحد أبطال حرب1948 الذي أطلق اسمه علي أحد شوارع الحي, وكم من سكان وشباب حي المالية( لاظوغلي) يتذكرون علي عبد اللطيف المناضل السوداني المصري الذي يحمل أحد شوارع الحي اسمه, فقد كافح من أجل حرية مصر والسودان في العشرينيات, وشاءت الأقدار أن يتواري جسده الطاهر في مقبرة الشهداء بالغفير عام1952. ماذا لو أعددنا موسوعة خاصة لمثل هؤلاء الشهداء, إن أسماء شهدائنا تشكل مفردات موسوعة ضخمة لو أعددناها لأصبحت موسوعة تاريخية لكل الأجيال علي مدي الزمان. ماذا لو أعددنا لوحة شرف بشكل وحجم مناسب تثبت في بداية ونهاية كل شارع يحمل اسم شهيد من شهدائنا, ويسجل عليها في نقاط محددة ومركزة سيرة هذا الشهيد وعطاؤه الوطني, ان سيرة هؤلاء الشهداء في موسوعة مكتوبة أو علي جدران شوارعنا صفحات مفتوحة من تاريخنا الوطني تنبض بالحياة وإن فارق أصحابها الحياة, ولعل هذا سر ديمومة هذا الشعب المصري العريق. ولعل الخطوة الأولي لإعداد موسوعة شهداء مصر هي توثيق حروب وثورات مصر طوال سنوات التاريخ الحديث والمعاصر, ولاشك أن اتاحة المزيد من الوثائق العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والمدنية( الجبهة الداخلية) أمام مفكري ومؤرخي وكتاب مصر تشكل سندا مرجعيا لاغني عنه لاستكمال كتابة فصول ملحمة التحرير التي قادها الشعب المصري بالمواجهة والفداء تارة(1956) وبالصمود والتحدي تارة أخري(1967) وبالمبادرة العسكرية الفذة تارة ثالثة(1973) وبقبول التحدي الحضاري( تحدي السلام العادل والدائم) مرة رابعة, وهكذا تتعدد وتتداخل حلقات ملحمة التحرير المصرية لتعكس بوضوح قدر مصر التاريخي ودفاع المصريين عن كل شبر من أرض مصر. ولقد قدم المؤرخ المصري الراحل عبد الرحمن الرافعي نموذجا أمثل لمشروع تخليد شهدائنا في كتابه عن شهداء ثورة1919, وما أحوجنا الي استكمال صفحات تاريخ شهدائنا قبل ثورة1919 وبعدها كمقدمة للعمل الجماعي في هذا السياق, ويمكن لاتحاد المؤرخين المصريين تبني مثل هذا المشروع. ولقد قدم المؤرخ المصري الراحل عبد الرحمن الرافعي مبادرة لمشروع تخليد شهدائنا عندما قام بكتابة تاريخ مصر القومي في أكثر من خمسة عشر مجلدا, بدأها عام1929 ونشر آخرها عام1957, مسجلا تاريخ ثورة1919 وملحقا بها قوائم الشهداء, واستقي معلوماته من أقسام الشرطة عن الشهداء الذين سقطوا برصاص الانجليز من المسلمين والأقباط, والذين آمنوا في أعماق قلوبهم بضرورة الاستقلال التام أو الموت الزؤام, ولم ينج من الشهادة حتي الذين خرجوا في مظاهرات معبرين عن فرحتهم بالإفراج عن سعد زغلول فانهمر عليهم رصاص الانجليز لتفريقهم وسقط منهم الكثيرون بين شهيد وجريح, ولقد بدأ مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر من حيث انتهي عبد الرحمن الرافعي, وقام فريق من باحثيه بمسح جغرافي لوقائع الثورة وشهدائها موزعة جغرافيا علي محافظات مصر وصدر الكتاب بعنوان( شهداء ثورة1919) ويدل أبلغ دلالة علي وحدة الدماء التي كانت ثمرتها الأولي دستور1923 الذي أكد المعني المدني للدولة المستقلة ذات السيادة الذي ينص دستورها علي مبدأ المساواة بين المصريين بلا تمييز. ومن شهداء ثورة1919 إلي شهداء المقاومة ضد الاحتلال البريطاني قبل وبعد توقيع معاهدة1936, ونذكر علي سبيل المثال شهداء شباب الجامعة المصرية سواء علي كوبري عباس(1946) أو عند معسكرات القوات البريطانية بجوار قناة السويس في بداية الخمسينيات, ومن اللافت للنظر ان كثيرا من طلاب جامعة القاهرة يمرون ذهابا وإيابا بجوار النصب التذكاري لهؤلاء الشهداء أمام البوابة الرئيسية للجامعة, ولا يدركون المغزي التاريخي لإقامة هذا النصب التذكاري, ومن ناحية أخري لايدركون مغزي حرص مصر علي إقامة نصب تذكاري تقديرا للأبطالها الذين خاضوا معارك الكفاح والتحرر ضد الاستعمار دفاعا عن أرضنا, ونذكر نصب الجندي المجهول لشهداء البحرية المقام بالإسكندرية عام1966 تكريما لابطال معركة البرلس عام1956 وهناك نصب تذكاري للجندي المجهول في مقابر شهداء القوات المسلحة بالعباسية تخليدا لشهداء حربي1948 و1956, وهناك كذلك نصب تذكاري لشهداء بورسعيد, أما نصب الجندي المجهول بمدينة نصر فقد أقيم عام1975 رمزا لشهداء حرب أكتوبر1973 ويعد هذا النصب اكبر وأحدث نصب أقيمت للجندي المجهول في عالمنا المعاصر.