من خلال وجودي في غزة خلال عملية الوهم المتبدد وبعد عودتي لمصر عاصرت جزءا كبيرا من المفاوضات التي جرت لإبرام صفقة شاليط وتابعت تفاصيلها عن قرب, علاوة علي أن علاقتي بالعديد من الأطراف المشاركة بشكل أو بآخر في المفاوضات أتاحت لي فرصة الحصول علي معلومات تتسم بالدقة الشديدة حول حقيقة ما كان يدور من مفاوضات واتصالات وما يصاحبها من أزمات في كثير من الأحيان. وتبدأ الحكاية في الساعات الأولي من صباح الخامس والعشرين من يونيو2006 عندما بزغت مع الفجر أنباء قيام عناصر من ثلاثة فصائل فلسطينية هي كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس وألوية الناصر صلاح الدين الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية وجيش الإسلام الذي كان قد تأسس حديثا بقيادة ممتاز دغش بمهاجمة الموقع العسكري الإسرئيلي في منطقة كرم أبو سالم( كيرم شالوم) من خلال نفق جري حفره عبر الحدود خصيصا لهذا الهجوم الذي تم خلاله قتل ثلاثة جنود إسرائيليين وأسر العريف جلعاد شاليط وإحضاره إلي غزة ونظرا لخطورة الأمر سارعت بالاتصال بقيادات حماس والفصائل الأخري التي شاركت في الهجوم لمعرفة ما يمكن أن يحدث خاصة بعدما توعدت إسرائيل برد انتقامي ضد القطاع وهو ما حدث بالفعل بعد ساعات من أسر شاليط. وعلمت من الفصائل أن الوفد الأمني المصري رفيع المستوي الموجود في غزة من أجل المصالحة الداخلية بين فتح وحماس والمؤلف من اللواءين رأفت شحاتة ومحمد إبراهيم بدأ التحرك فور الإعلان عن العملية لتجنيب غزة ويلات الحرب الانتقامية المنتظرة. وساطة من اللحظات الأولي الاسرى الفلسطينيين المفرج عنهم وحسبما علمت آنذاك فإن المفاوضات بين الوفد المصري وكبار قيادات حماس والقسام بدأت في نفس يوم عملية الوهم المتبدد واستمرت لمدة ثلاثة أيام لتتوقف فجأة بعد اعتذار القيادة الكبيرة في حماس صباح يوم27 يونيو بسبب تردي الأوضاع الأمنية نتيجة بدء إسرائيل عملياتها الانتقامية التي حملت اسم عملية أمطار الصيف وأوقعت ما يقرب من500 شهيد.ولكن بحلول مساء اليوم نفسه27 يونيو2011 تلقي الوفد الأمني المصري اتصالا هاتفيا من قيادة بارزة من كتائب القسام أرسل بعده خطابا للوفد يحمل3 شروط لإطلاق سراح شاليط ووقف عملية أمطار الصيف الانتقامية الدموية لإسرائيل. شروط حماس وتضمنت الشروط التي وضعتها القيادة العسكرية البارزة لكتائب القسام: أولا: إطلاق إسرائيل سراح ألف أسير. ثانيا: إطلاق سراح جميع الأسيرات وجميع الأطفال الأسري. ثالثا: إطلاق سراح جميع الفلسطينيين من ذوي المحكوميات العالية. ورغم قيام الوفد الأمني المصري رفيع المستوي وبعد التشاور مع القيادة بمصر بإبلاغ الجانب الإسرائيلي شروط حماس لإطلاق سراح شاليط فإنها لم ترد إلا في نهاية أغسطس2006 حينما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بتعيين عوفر ديكل مبعوثا خاصا له وهو الذي قام بدوره بزيادة القاهرة وأبلغ القيادة المصرية بموافقة إسرائيل علي التفاوض حول تبادل الأسري ومن ناحيتها كلفت مصر فريقا من المسئولين الأمنيين بهذه المهمة. جولات مكوكية وبدأت أولي الجولات المكوكية للوفد المصري للوساطة في نهاية أغسطس وبداية سبتمبر2006, حيث زار كل من غزة للتفاوض مع حماس وتل أبيب لإبلاغ المسئولين الإسرائيليين بمطالب حماس.. واستمرت تلك الجولات المكوكية حتي يونيو.2007 وخلال هذه الجولات طلبت إسرائيل من الجانب المصري أن يأتي بأي دليل من حماس علي أن شاليط مازال حيا حتي تبدأ مفاوضات جادة لتبادل الأسري وهو ما تم بالفعل عندما حصل الجانب المصري علي أول خطاب مكتوب بخط يد الجندي الأسير وكان بتاريخ يوم عيد ميلاده, ولم تكن مسألة الحصول علي الخطاب بتوقيع شاليط سهلة تحت أي ظرف من الظروف نظرا للإجراءات الأمنية المشددة التي اتخذتها حماس لمنع تسرب أي معلومة عن مكان احتجاز الجندي الأسير أو شخصيات محتجزيه وبمجرد قيام الجانب المصري بتسليم الخطاب إلي الجانب الإسرائيلي ومنه إلي عائلة شاليط بدأت المفاوضات المكوكية الجادة بين الطرفين بوساطة مصر واستمرت حتي وقعت المصادمات الواسعة النطاق بين عناصر حماس وفتح في يونيو2007 وانتهت بسيطرة حماس علي القطاع وطوال تلك الفترة ومن خلال متابعتي للمفاوضات أكد لي قادة حماس ان الوفد الأمني المصري يعمل بجد وإخلاص وانه نجح في تثبيت مطلب حماس الخاص بعدد الاسري المطلوب الافراج عنهم وهم ألف أسير, كما نجح في اقناع إسرائيل بإطلاق سراح أسري ممن تصفهم بأن اياديهم ملوثة بدماء الإسرائيليين, وهو ما كانت ترفضه تماما في الماضي. توقف كل شئ وبعد سيطرة حماس علي غزة في41 يونيو2007 وما صاحبها من تهديد من بعض عناصرها للعاملين بالسفارة المصرية في غزة والوفد الأمني المصري الذي كان موجودا بالقطاع برئاسة اللواء برهان حماد والذي كان بدوره يشارك في المفاوضات في تلك الفترة ومخاوف إسرائيل من وضع حماس الجديد توقفت الوساطة, كما انسحب الدبلوماسيون والمسئولون الأمنيون المصريون العاملون بالقطاع وفي نهاية يناير2008 وعقب القرار المصري التاريخي بعدم التصدي للفلسطينيين الذين هدموا الجدار الحدودي بين مصر وغزة زار القاهرة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس وطلب خلال الزيارة من رئيس المخابرات العامة المصرية آنذاك الوزير عمر سليمان ان يستأنف الوفد الأمني وساطته في صفقة شاليط. وهنا بدأت مرحلة جديدة من المفاوضات شملت عشرات اللقاءات والجولات المكوكية مع حماس والإسرائيليين سواء بالقاهرة أو في تل أبيب. وحرصت مصر خلال تلك الجلسات علي تحقيق تقدم ولو طفيفا في كل جلسة حتي يتم البناء عليه في الجلسة التالية وكان من ابرز انجازات تلك الجولات موافقة إسرائيل علي إطلاق سراح أكبر عدد من الاسري الفلسطينيين ذوي الاحكام العالية, ولكن المواقف المتعارضة للطرفين أدت إلي توقف جديد للوساطة والمفاوضات بالكامل. المفاوضات غير المباشرة ومرة أخري وعقب انتهاء العدوان الإسرائيلي علي غزة في نهاية عام2008وبداية2009والذي اطلق الإسرائيليون عليه اسم عملية الرصاص المصبوب اصرت مصر علي استئناف مفاوضات تبادل الاسري وهنا حدث متغير جديد ونوعي تمثل في موافقة إسرائيل وحماس معا علي استبدال طريقة المفاوضات عبر الجولات المكوكية بين القاهرة وتل أبيب بطريقة المفاوضات غير المباشرة, حيث جاء الوفدان الإسرائيلي والفلسطيني إلي القاهرة في آن واحد ليجلسا في غرفتين متجاورتين في مقر المخابرات العامة, وكان ذلك في مارس2009 وبحضور الوزير عمر سليمان مدير المخابرات آنداك وكان الوفد المصري يتنقل بين الغرفتين حاملا المقترحات أو الردود, وكان ذلك أكبر دليل علي رغبة الطرفين في حسم الصفقة سريعا وشارك في تلك الجولات من المفاوضات غير المباشرة رئيس الشاباك الإسرائيلي( آنذاك) الجنرال يوفال ويسكين, بينما ترأس وفد حماس أحمد الجعبري القائد العام لكتائب القسام ومعه الدكتور محمود الزهار عضو المكتب السياسي للحركة. إنفراجة كبيرة وبعد مفاوضات مكثفة علي مدار ثلاثة أيام حدث تقدم نوعي جديد تمثل في موافقة إسرائيل وللمرة الأولي علي أن تشمل الصفقة إطلاق سراح اسري من القدسالشرقيةالمحتلة والتي كانت إسرائيل ترفض دائما ادراجهم في الصفقة وتعتبرهم مواطنين إسرائيليين, كما وافقت إسرائيل علي إطلاق سراح عدد من القيادات الحمساوية المحكوم عليها بعدد من المؤبدات والتي كانت تعتبر ان ادراجهم يعد خطا أحمر, كما وافقت علي ان يذهب معظم المبعدين إلي قطاع غزة وليس الخارج. سقوط اولمرت وبينما كانت الامور تسير بشكل جيد ومبشر حدث تطور سلبي مفاجئ لا علاقة له بالمفاوضات اذ تفجرت أزمة سياسية في إسرائيل بعد اتهام رئيس الوزراء ايهود اولمرت بالفساد فأصبحت أيامه في الحكم معدودة وبالتالي توقفت المفاوضات بعد ان كانت علي وشك الاكتمال. التراجع في عهد نيتانياهو وعندما تولي بنيامين نيتانياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية في اوائل عام2009 عقب الانتخابات التي فاز فيها حزب الليكود برئاسته وتحالف مع حزب إسرائيل بيتنا اليميني برئاسة افيجدور ليبرمان تعرضت المفاوضات لنكسة شديدة بعدما رفض نيتانياهو الالتزام بما تم الاتفاق عليه في فترة سلفه اولمرت ولم يكتف بذلك بل قام بتعيين فريق تفاوض جديد برئاسة مبعوث جديد هو رجل الموساد هجاي هداس والذي اثبت في لقائه الأول مع الوفد الأمني المصري ان كل شيء عاد للخلف وهو ما اعترضت عليه القيادة المصرية. وشدد الجانب المصري في لقائه مع هجاي هداس علي الاسس التي سبق الاتفاق عليها والتي لو وافقت عليها حكومة نيتانياهو فسيتم ابرام الصفقة خلال أيام وهي: أولا: إطلاق سراح ألف أسير علي مرحلتين منهم450في المرحلة الأولي و550في المرحلة الثانية. ثانيا: إطلاق سراح جميع السيدات والأطفال. ثالثا: إطلاق سراح أكبر عدد من اسري القدسالشرقية وتقليل عدد المبعدين لأقصي درجة ممكنة. رابعا: شمول الصفقة القيادات التي تسميها إسرائيل بالقيادات الخطرة ومنها القيادي في فتح مروان البرغوثي دخول الوسيط الألماني. وهنا اعتبرت إسرائيل أن مصر منحازة لجانب حماس فلم تتجاوب مع مطالبها, ولم تكتف بذلك بل طلبت الاستعانة برجل المخابرات الألماني جيرهارد كونراد الذي سبق أن توسط في صفقة التبادل بينها وبين حزب الله اللبناني عقب العدوان علي لبنان في يوليو2008, ويؤكد المسئولون الفلسطينيون المطلعون علي التفاصيل ان الجانب المصري رد بإيجابية وتجرد علي الطلب الإسرائيلي من أجل مصلحة الأسري الفلسطينيين فلم يرفض دخول الوسيط الالماني بل وتعاون معه. يوليو2009 وبدأ الوسيط الألماني مهامه في يوليو2009 وجري الاتفاق مع حماس وإسرائيل علي أن تكون مصر هي المرجعية للوساطة الألمانية, حيث كان لزاما علي كونراد أن يعود الي القاهرة عقب كل زيارة الي غزة لوضع الجانب المصري في الصورة والاستماع الي أي ملاحظات أو مقترحات, ونفس الأمر كانت تفعله حماس, حيث كانت تبلغ مصر بعد أي لقاء مع الوسيط الألماني, وبذلك كانت القاهرة حاضرة في جميع اللقاءات والجولات. صفقة الوسيط الألماني وبعد عشرات الجلسات التي عقدها الوسيط الألماني مع الطرفين توصل في نهاية ديسمبر2009 الي صفقة حظيت بموافقة نيتانياهو, ولكن حماس رفضتها نظرا لانها تنص علي إبعاد الكثير من الأسري الي الخارج ولا تحتوي الا علي عدد قليل من القيادات المهمة توافق إسرائيل علي إطلاق سراحهم وحاول الوسيط الالماني حتي منتصف عام2010 إدخال بعض التعديلات علي الصفقة ولكن حماس واصلت رفضها لعدم تلبية معظم مطالبها, ورغم محاولات مصر إقناع إسرائيل والوسيط الألماني بالاستجابة للمزيد من المطالب الفلسطينية فإن حكومة نيتانياهو تمسكت بموقفها ووافقت فقط علي الصفقة المرفوضة من حماس. خروج الوسيط الألماني مع إدراك حماس أن الوسيط الألماني غير قادر علي إقناع الإسرائيليين بتلبية مطالبها دعت الجانب المصري في أواخر عام2010 للعودة الي الوساطة منفردا, وهو ماحدث بالفعل في يناير2011, حيث بدأ الوفد الأمني المصري المفاوض اعادة ترتيب الأوراق, ووضع أسس الحل علي الطاولة. المرونة المزدوجة ومع حلول شهر مايو2011 حدث تطور إيجابي, حيث أكد الطرفان( حماس وإسرائيل) بأنهما سيبديان مزيدا من المرونة في المفاوضات, وكانت البداية عندما اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي مبعوثا جديدا للمفاوضات هو ديفيد ميدان الذي زار القاهرة والتقي بمدير المخابرات العامة الجديد اللواء مراد موافي والذي أكد له بدوره رؤية مصر لابرام الصفقة والتي ترتكز علي نقطتين: أولاهما: أن مصر تري أن المصالحة التي تمت في الرابع من مايو2011 بين فتح وحماس بالقاهرة ستفتح الطريق ق للتحرك نحو إبرام اتفاقية تبادل الأسري, وبالتالي فلا داعي لقلق إسرائيل والولايات المتحدة من تلك المصالحة وهو ماثبت صحته فيما بعد. وثانيتهما: انه آن الأوان لوضع النقاط فوق الحروف, وأن حل قضية شاليط مرتبط ارتباطا وثيقا بأن يكون هناك قرار سياسي من نيتانياهو بإنهاء الصفقة. مبادئ الاتفاق وأوضح اللواء مراد موافي لديفيد ميدان أن مصر ستكون قادرة علي إنهاء الصفقة خلال أيام إذا وافقت إسرائيل علي مايلي: 1 ألا تكون الصفقة صفقة إبعاد ويجب أن تكون صفقة مشرفة. 2 أن يكون هناك عدد ولو رمزيا من عرب إسرائيل ضمن الصفقة. 3 أن يكون هناك عدد معقول من الأسري من القدسالشرقية. 4 ضرورة الإفراج عن عدد معقول من القيادات الخطرة بالمفهوم الإسرائيلي. وكان الاتفاق وفي نهاية يوليو2011 وافقت إسرائيل وحماس علي استئناف المفاوضات غير المباشرة بمصر وفي مقر المخابرات العامة تحديدا وليس في أي مكان آخر, وبالفعل بدأت المفاوضات في أول أغسطس بوجود وفد رفيع المستوي من حماس يضم أحمد الجعيري القائد العام لكتائب القسام والدكتور نزار عوض الله عضو المكتب السياسي, والشيخ صالح العاروري مسئول ملف الأسري, والقيادي مروان عيسي الي ان تم الاتفاق علي جميع التفاصيل في11 أكتوبر الحالي لإدراك الطرفين أن هذه الصفقة هي أفضل ما يمكن الحصول عليه في ظل الظروف السياسية الحالية وعدم الرغبة في إضاعة الفرصة السانحة. وبتنفيذ المرحلة الأولي من الاتفاق في الثامن عشر من أكتوبر الحالي بدأت مصر تستعد لتنفيذ المرحلة الثانية بعد شهرين والتي تم وضع أسسها كاملة, حيث اشترطت حماس ألا يكون بين الأسري الذين ستختار إسرائيل إطلاق سراحهم سجناء جنائيون, كما حدث في عدة صفقات أخري. وخلال المرحلة الأخيرة من الوساطة المصرية التي استمرت أكثر من خمس سنوات, وشارك فيها كل من اللواء رأفت شحاتة, واللواء محمد إبراهيم, واللواء نادر الأعصر, واللواء خالد العرابي الي ان توفاه الله منذ عدة شهور والعمداء وائل الصفتي وأحمد عبدالخالق وياسر الغزاوي بذلت مصر جهودا مكثفة لتقريب وجهات النظر خاصة في اللحظات الحاسمة ولحظات الخلاف والتي لم تكن هناك أي وساطات أخري فيها غير الوساطة المصرية بعد خروج الوسيط الألماني.