شر الدواب!! في معصمي أحمل درعا شفافة مثبتة بإحكام, قالوا إنها واق لجسدي من الضربات.. وشفافة لكي أري خصومي وهم من كل صوب وحدب يتدافعون!! وفي يدي الأخري أحمل هراوة شديدة البأس, قالوا بإنها فعالة لما أريد!! وعلي رأسي خوذة معدنية قالوا إنها تحمي رأسي المثخن المتخمة بكثير من أسئلة وعلامات استفهام تموج برأس حائر اعتاد علي ألا يجد إجابة شافية أبدا تحت وطأة الشمس الحارقة تارة, وفي مهب برد شديد الوطيس تارة,وفي مرمي ريح الشارع بزحامه وضوضائه وكثير من ملوثاته تارات وتارات!! .. وينتفض المنادي فينادي: إجهز, فينتفض كل كياني مع هذا النداء, ولا أستطيع حينئذ أن أخفي تسارعا بسيطا لضربات قلبي, من بعد أن تبلغه زخات الأدرينالين تتري, تدق نواقيس وأجراس الخطر في جميع أرجاء جسدي المتسمر في مكانه, انتظارا لصوت المنادي مرة أخري كما تتوقعه مسامعي خلال لحظات قليلة بأن إضرب.. ويا له من نداء!! فتصطف صفوف الجنود صفا صفا.. الكتف بالكتف والقدم بالقدم, وتتسارع الأنفاس,وتتوتر الأجواء,وتستدعي الذاكرات ما تدربت عليه بين أسوار المعسكر كل يوم في مواجهة حشود متظاهرين, ولكن القلب لا يتوقف عن سباق دقاته مع دقات الساعة, وهي ترصد المسافة صفر التي سيتراشق فيها الجمعان!! أسمع حناجر تغلي من فرط الغضب تحملها ذرات الهواء إلي مسامعي ومسامع من يصطفون من حولي, ثم ما هي إلا لحظات خاطفة حتي تلتقط عيناي أصحاب هذه الحناجر قادمين عن بعد في تشكيلات عشوائية من بشر مترجلين, ملء رءوسهم هدف محدد يبغونه, تفصح حناجرهم عن مختصره المفيد من خلال عبارات مقفاة صاغوها, وإن ظللت أنا وزملائي من سائر الجنود هدف هؤلاء الأول في الطريق نحو بلوغ هذا الهدف الذي ينشدونه في الأساس!! ويلتقي الجمعان: جمع يري أن الحق معه, ينتزعه من فك الأسد انتزاعا.. وجمع يري أن الحق معه, يزود عنه بشجاعة!! يختلط الحابل بالنابل, وموجات من كر و فر أقرب إلي تلاطم أمواج البحر في أوج النوات, وهي تندفع نحو الصخور,فلا الصخور سقطت, ولا الأمواج توقفت عن التدافع!! ضجيج, وعنف,وحرائق, وأصوات طلقات نارية تتطاير في الهواء, وغاز أزكم الأنوف, وضحايا علي الجانبين, ودماء تسيل علي قارعة الطريق امتزجت, فما عاد أحد قادرا علي أن يتبين الخطأ منها والصواب.. ملك الموت يطوف في الأنحاء متلهفا إلي حصد الأرواح, والأمهات الثكلي علي الجانبين ينتحبن في البيوتات: فهذا ولدي البطل, وذاك ولدي البطل.. هذا ولدي الشهيد, وذاك ولدي الشهيد.. وجها العملة انصهرا في آتون الحريق فما عادت للعملة ملامح, ثم ما عادت العملة نفسها ذات نفع أو قيمة بعد ذلك!! تتطاير الخوذات, فتتكشف الوجوه فتتساوي الرءوس: فهذا شاب وخصمه شاب أيضا.. يا إلهي, الاثنان في ريعان الشباب,هذا قدم روحه فداء للوطن, وذاك قدم روحه فداء لنفس الوطن وهما يختصمان.. أما الوطن فقد خسر الاثنين!! ولكن العدل منازل.. والشهادة منازل أيضا; ذلك لأن العدل من الدين وكذا الشهادة أيضا;فشهيد من قبل( بضم القاف والباء) أي استشهد وهو يواجه عدوه, ليس كشهيد استشهد من دبر أي استشهد وهو يفر من عدوه, والاثنان ليسا كمن استشهد غريقا أو مقتولا في ظروف استثنائية.. وشهيد يحرس وشهيد يدمر لايستويان هكذا ميزان العدل!! وحينما تختلط أوراق العدل في رءوس العباد وتتفاعل جدليات الجدل لا يجد المرء سوي الحكمة ملجأ يحتكم إليه, فوجدتني أعتصر عقلي من أجل حكمة تحسم هذا الجدل في رأسي, فوجدت كلمات عطرة لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه: عينان لن تمسهما النار: عين بكت من خشية الله; وعين باتت( تحرس) في سبيل الله.. فقضي الأمر!! .. ثم كان أن وجدت ضالة عقلي في كلمات محكمة شديدة الحكمة شديدة الإيجاز: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون(22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون(23)( الأنفال). المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم