عشرون سنة تقريبا مرت قام خلالها رؤساء للجمهورية التركية بالاضافة إلي القائمين علي حكوماتها بزيارات عديدة للقاهرة تراوحت بين الرسمية والعمل والخاصة, بدءا من الراحل تورجوت اوزال وسليمان ديميريل مرورا بتانسو تشيللر وانتهاء بعبد الله جول واردوغان. وجميعها كانت تمر مرور الكرام سواء علي مستوي المبديا المرئية والسيارة أو بالنسبة للرأي العام هنا في عموم تركيا. وكم كان الجهد المضني الذي يبذله المرء القادم إلي' وريثة الامبراطورية العثمانية' علي أمل ان يجد مقالا صحفيا أو ندوة تليفزيونية يتسم كلاهما بالتحليل والقراءة المتعمقة لفحوي زيارة ما ومغزاها التي يقوم بها مسؤلو بلادهم إلي أرض الكنانة, ولكن دون جدوي, اللهم العثور علي إشارات تسجيلية متفرقة منزوية في أركان الصفحات الداخلية أو في ذيل النشرة الإخبارية بالتليفزيون شبه الرسمي, وكان السؤال الذي طرحه المراقب علي نفسه: تري ما هو السبب وعلام يعود التجاهل أو عدم الإكتراث؟ هل لأن الدولة المستقبلة ليست مهمة ؟ أم ان مهمة المسئول نفسه لا تحظي بالاهتمام؟ وحتي الزيارة التي كان يزمع زعيم العدالة والتنمية الذي بسط نفوذه علي قطاع عريض من الاعلام القيام بها في الثامن من فبراير الماضي قبل الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك ولم تتحقق, توارت أمام طوفان الغضب في25 يناير الذي كان العنوان الوحيد المسيطر علي كل ما هو مقروء ومرئي ومسموع, والحق لم يكن هناك أحد في كل أرجاء الاناضول علي إستعداد ان يستقبل أي شيء آخر سوي أخبار ثورة المصريين!! غير أن تلك المشاهد اللامبالية ستنقلب إلي النقيض, وها هي الزيارة التي يقوم بها أردوغان اليوم للعاصمة المصرية حظيت ومازالت بزخم تركي, اعلاميا وسياسيا, لم يحدث طوال العقدين الماضيين, ونادرا أن وجد المراقب شبكة تليفزيونية ما أو صحيفة, لم تبد إهتماما بهذ الحدث الذي وصف بالتاريخي, وتفسير ذلك بسيط ويتمثل في عقد غير مكتوب أبرم بين الشعب بقطاعاته العريضة والنخب الحاكمة, مؤداه: إذا كانت مصالح البلاد تتقضي التواصل مع الحكام العرب ومنهم مصر بطبيعة الحال, فلا بأس شريطة ألا تشغلوا المواطنين بها الذين أصابهم السأم وهم يرون الرؤساء الناطقين بلغة الضاد ماضون في مقاعدهم سنوات وسنوات, وليتهم اكتفوا بذلك فحسب بل أرادوا توريث أبنائهم ليحلوا محلهم بعد عمر مديد, ومع السقوط المدوي للطغاة لم يعد هناك مبرر للمبالاة, بل العكس هو الصحيح وهو الحاصل الآن. فوجود أردوغان علي رأس وفد وزاري رفيع المستوي وبصحبته200 رجل اعمال, بمصر يأتي بعد ثورة25 يناير والتي لاقت ترحيبا طاغيا من قبل الرجل الذي لم يجد أدني غضاضة أو حرج في دعوة مبارك صراحة ودون مواربة بالتنحي, ولأنه يريد تعظيم العلاقات من جانب وإيجاد دور لبلاده في حقبة التحول التي تعيشها مصر من جانب آخر, كانت توجيهاته لمعاونيه قبل أسبوع من موعد زيارته لإعداد ملفات تفصلية للتعاون في كافة المجالات لبدء مرحلة مفصلية جديدة بين تركيا ومصر. ثمة أمر آخر أضاف بعدا مهما للزيارة صحيح قد لا يكون مرتبا أو مقصودا إلا أنه أصبح واقعا معاشا ونقصد هنا التوتر وإن اختلفت المنطلقات والدواعي الذي يسود علاقات كلا البلدين بالدولة العبرية, ومن ثم لم يكن غريبا أن تشير الكتابات التي حفلت بها الصحف التركية إلي إمكانية تشكيل محور تركي مصري إستراتيجي في المنطقة, أو بمعني آخر تدشين تحالف جديد ضد اسرائيل, ولهذا السبب ووفقا لتلك الرؤي, بدأت تل أبيب تبدي قلقا حيال تلك التطورات وما تحمله من تداعيات ستعود بالسلب علي إسرائيل. وعلي مستوي التحليل السياسي في وسائل الإعلام المرئية خصوصا هذا الذي تلا صدور تقرير الأمم المتحدة' الصادم' والذي أعده' بالمر جيفري' بشأن سفينة مافي مرمرة للمساعدات الإنسانية, حرص الخبراء وفي أكثر من مناسبة علي التأكيد أن زيارة اردوغان لمركز الربيع العربي قد تشكل ضربة دبلوماسية لإسرائيل خاصة وأن انقرة باتت علي قناعة بأن تحالفها الاستراتيجي المحتمل مع القاهرة قد يكون بديلا عن هذا التحالف الذي أبرم مع صديق الامس العبري في26 فبراير عام1996. ولا يمكن فصل التوجه التركي نحو مصر المغايرة عن بقية جولة اردوغان بشمال أفريقيا والتي يقوم بها اعتبارا من بعد الغد لكل من تونس وليبيا, فالهدف الاساسي للمنحي الاردوغاني هو تأسيس علاقات وطيدة مع المسئولون الجدد للثورات العاصفة, وفي نفس الوقت الظفر بدور مهم في رسم خريطة منطقة الشرق الاوسط, وهكذا تتضح نية الأتراك شيئا فشئيا من أجل تعزيز مكانتهم ليس فقط في الاستفادة من التغير الحاصل في جغرافية العرب بل كي يصبحوا محور الفضاء الجيوسياسي الجديد الذي يبدو أنه لن يتقصر فقط علي شمال أفريقيا بل قد يظلل تلك المساحات الشاشعة من المحيط إلي الخليج. وحتي يتحقق ذلك, وفي إطار حرصه علي عودة صورته الايجابية التي لفحها بعض الضباب كما كانت لدي الشعوب العربية عقب مشاجرته اللفظية ضد شيمون بيريز في حادثة دافوس الشهيرة, سيعيد رجب طيب اردوغان مفرادته وهي التأكيد دون تحفظ علي حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية, ويذهب تفاؤل الإعلام التركي إلي أبعد من ذلك حينما اكد أن خطاب اردوغان في الجامعة العربية سيكون اقوي من نظيره الامريكي الذي القاه الرئيس باراك اوباما في القاهرة قبل عامين.