جامعة كفر الشيخ تنظم لقاءات تعريفية للطلاب الجدد    محافظ أسوان: انتظام العملية التعليمية بمجمع مدارس أبو الريش بحري    «الزراعة» تكشف موعد انخفاض أسعار الطماطم في الأسواق| خاص    حملة على قرى الطريق الصحراوي الشرقي والغربي لاسترداد أراضي أملاك الدولة    المدير التنفيذى ل"ابدأ": نستهدف تشجيع الصناعة المحلية لتوفير 16مليار دولار    رانيا المشاط تلتقي الأمين التنفيذى للجنة الاقتصادية لأفريقيا لمناقشة الجهود المشتركة    استمرار البحث عن المفقودين جراء الغارة الإسرائيلية على بيروت    ارتفاع قتلى الغارة الإسرائيلية على ضاحية بيروت ل50 شخصًا    «إكسترا نيوز»: مصر تناشد مواطنيها بعدم السفر إلى إقليم أرض الصومال    جوميز يحفز لاعبي الزمالك قبل موقعة السوبر الأفريقي    هدف ريال مدريد.. نجم بايرن ميونخ يثير التكهنات حول مستقبله    عمر مرموش يحسم موقفه من الرحيل عن فرانكفورت    كيف ودع رمضان صبحي اللاعب أحمد فتحي بعد إعلان اعتزاله؟    السجن 5 سنوات لمتهم عرض ابنه للبيع على فيس بوك بأوسيم    «معلومات الوزراء»: تراجع أعداد الإصابات الجديدة في أسوان بشكل ملحوظ    حقنة مخدر وراء العثور على جثة شاب في الوراق    «قصور الثقافة» تسدل الستار على مهرجان مسرح الهواة في دورته العشرين    مهرجان الغردقة يخصص جلسة عن علاقة السياحة بصناعة السينما    كريم الحسيني: «محمد رمضان أصابني بذبحة قلبية»    2250 مستفيدة من الحملة التنشيطية لتنظيم الأسرة بالإسماعيلية    الصحة: إنارة 24 مستشفى ومركز للصحة النفسية بمناسبة اليوم العالمي للتوعية ب "ألزهايمر"    إنفوجراف| كل ما تريد معرفته عن متحور كورونا الجديد «XEC»    أعراض مرض الكوليرا وطرق الوقاية منه    وزارة العمل تنظم ندوة توعوية بقانون العمل في المنيا    مسؤول أمني إسرائيلي كبير: الوضع الحالي في الضفة الغربية يقترب من نقطة الغليان    السفير الروسي بالقاهرة: تحرير الأراضي الروسية من المسلحين الأوكرانيين أولوية موسكو    سياسيون: «قمة المستقبل» تعكس جهود القيادة المصرية في تمكين الشباب    الشهرة والترند تقود فتاة للادعاء في فيديو اعتداء 5 سودانيين عليها بفيصل    الأهلي يترقب.. العين يستضيف أوكلاند سيتي في كأس إنتركونتيننتال اليوم    وزارة العمل تواصل تفعيل تدريب مجاني لفتيات أسيوط    أونروا: مخيمات النازحين تعرضت اليوم لأول موجة أمطار فى خان يونس جنوب غزة    بسمة وهبة تعلق على سرقة أحمد سعد بعد حفل زفاف ابنها: ارتاحوا كل اللي نبرتوا عليه اتسرق    وجعت قلبنا كلنا يا حبيبي.. أول تعليق من زوجة إسماعيل الليثي على رحيل ابنها    الانتهاء من نقل أحد معالم مصر الأثرية.. قصة معبد أبو سمبل    بداية العام الدراسى.. نظام التعليم فى مصر القديمة دليل على اهتمامهم بالعلم    الجامع الأزهر يتدبر معاني سورة الشرح بلغة الإشارة    موسم الهجوم على الإمام    اعتزل ما يؤذيك    ضبط8 عصابات و161 قطعة سلاح وتنفيذ 84 ألف حكم خلال 24 ساعة    الرئيس السيسى يتابع خطط تطوير منظومة الكهرباء الوطنية وتحديث محطات التوليد وشبكات النقل والتوزيع ومراكز التحكم ورفع مستوى الخدمة المقدمة للمواطنين بشكل عام.. ويوجه بمواصلة جهود تحسين خدمات الكهرباء بالمحافظات    النائب ياسر الهضيبي يطالب بإصدار تشريع خاص لريادة الأعمال والشركات الناشئة    استشهاد 6 فلسطينيين فى قصف للاحتلال استهدف مدرسة تؤوى نازحين بغرب غزة    الصحة تنظم ورشة عمل لبحث تفعيل خدمات إضافية بقطاع الرعاية الأساسية    أدعية للأم المتوفاه.. دار الإفتاء تنصح بهذه الصيغ (فيديو)    فرصة لشهر واحد فقط.. موعد حجز 1645 وحدة إسكان ب8 مدن جديدة «التفاصيل»    رودريجو: أنشيلوتي غاضب.. وأشكر مودريتش وفينيسيوس    بحضور رئيس الجمهورية وزارة الأوقاف احتفلت بالمولد النبوى وكرمت العلماء الرئيس السيسي: نحن فى حاجة ماسة لمضاعفة جهود مؤسسات الدولة فى مجالات بناء الإنسان    ضبط 27327 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    تحرير 148 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    مفاجأة بشأن مصير «جوميز» مع الزمالك بعد السوبر الإفريقي    الداخلية: ضبط 618 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    لهذه الأسباب.. إحالة 10 مدرسين في بورسعيد للنيابة الإدارية -صور    ب«التكاتك والموتوسيكلات».. توافد طلاب البحيرة على المدارس في أول أيام العام الدراسي الجديد    خطيب المسجد النبوي يُحذر من الشائعات والخداع على وسائل التواصل الاجتماعي    حرب غزة.. الاحتلال يقتحم عنبتا شرق طولكرم ويداهم عدة منازل    عالم أزهري: الشعب المصري متصوف بطبعه منذ 1400 سنة    وزير الخارجية يلتقى المفوض السامي لحقوق الإنسان بنيويورك (صور)    ريمس يفرض التعادل على باريس سان جيرمان في الدوري الفرنسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤرخة الدكتورة لطيفة سالم تعيد قراءة ثوراتنا‏:‏ مصر المكان‏..‏ أقوي من الزمان
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 09 - 2011

هي البحر من أي الجهات أتيتها‏,‏ فالعمق لجتها والبساطة شواطئها فالدكتورة لطيفة سالم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر من صفوة العلماء ودرة نون النسوة في هذا التخصص الوعر الموغل في القدم منذ وجد الإنسان علي سطح الأرض.
زرقاء اليمامة الأكاديمية القديرة تدعو تلاميذها ومريديها للمعرفة التاريخية من منطلق نظرة مستقبلية, فهي لا تقرأ التاريخ( ماضويا) حتي يقال لها العبارة الشهيرة كفانا كلام في الماضي, ولكنه الحاضر بوطأته متجذرا في الماضي.. فهل يوجد بديل لمن يريد أن يتطاول في البناء سوي الحفر في الأعماق؟ من هنا كان حرص الدول المتقدمة علي دراسة تاريخها ووعيه لأنه من أهم ثوابت أي هوية.. فالقراءة التاريخية المستقبلية تعرف أخطاءها فلا تكررها وقد تكون ملهما لاستكمال الطريق.
عشرات الأبحاث والأعمال والوثائق قامت بتحقيقها ومعظمها كان لايزال( بكرا), فهي أول من أنصف الملك فاروق أكاديميا بعيدا عن الكتابات والحجج التي لا تنهض علي ساق.. فساهمت بموضوعيتها في تنقية أحداث كثيرة من شوائب المغرضين..
د. لطيفة بحكم تكوينها النفسي تمتلك فطرة منجذبة لانصاف المظلومين تاريخيا.. لكنها كعالمة جليلة تنصهر مع بحثها في البداية بحكم التعاطف مع الموضوع المختار, لكنها ما تلبث أن تودع هواها لحين انتهاء البحث يقينا منها أننا بشر لنا أهواء وميول وعواطف وآراء, لكن يجب أن يظل المؤرخ شأن القاضي يظل دائما بمنأي عن الأغراض, يرتكن لضميره ولمصادر متعددة تقطع الشك باليقين.. أمانتها العلمية وجدارتها البحثية واسهاماتها الغزيرة دفعت تلاميذها لنعتها بأم المؤرخين, فحصلت علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي وجائزة الدولة التقديرية.. أسلوبها مرسل يفيض بثراء المعني.. من أبرز آرائها: أن الأجيال الجديدة تفتقد الحس التاريخي لكنها تتفوق في المعرفة التكنولوجية.. الإنسان قد يتناقض مع نفسه وتؤمن بأن التاريخ لا يتكرر بسهولة كما هو شائع, اذا كف السياسي عن تقديم الأجوبة فقد مشروعيته, والأمر كذلك بالنسبة للمثقف والأكاديمي فالسؤال من أكثر أدواته قوة ومضاء.. لا تغفل عن إنسانية الأحداث فالبشر هم البشر منذ وصفهم ميكافيللي بصراحة مطلقة كسياسيين بما جبلوا عليه من طبائع.. لذلك فهي تتحفظ كما علمتها الخبرة أمام الوثائق أيضا, فأحيانا تكون مضللة وهناك محاولات مستميتة لضرب الرموز التاريخية..
الحوار مع د. لطيفة سالم عن السياسيين والحكام أكسبني إدراكا أوسع بأهمية اختيار القادة وفقا لمعايير الزعامة والكاريزما والجدارة.. فمبدأ رجل مستطيع بغيره التي كان يطلقها طه حسين علي نفسه كناية عن عجزه البصري واختيار الأكثر اعتيادية وبساطة بحجة عدم الاستبداد ووأد الديكتاتورية, فهو مفهوم تجاوزه الزمان, فمصر مهما تراكمت عليها العلل لا تموت ولكنها اعتادت أن تقاوم شأنها شأن طائر الفينق يبعث دوما من رماده.
تتسم كتاباتك التاريخية بالنضارة والتنوع ويطلق عليك طلابك أم المؤرخين وهو لقب نادر ندرة التخصص النسائي في علومه المتشعبة.. فكيف كانت نشأتك ومدي ارتباطها بالمجال التاريخي ؟
تبتسم وتشرد قليلا وكأنها تسترجع الأحداث: بالرغم من أن التاريخ يسقط أحيانا الكثير من التفاصيل التي قد تغير من معالم الأحداث.. فإن واقعة حبي القدري للتاريخ منذ البداية مازالت ماثلة بكل تفاصيلها.. فأنا اسكندرانية تشربت الزخم الاجتماعي والثقافي من تلك المدينة الساحرة منذ نعومة أظافري.. التحقت بمدرسة بنات الإشراف التي كانت تتولي إدارتها التربوية الفاضلة الشهيرة نبوية موسي وكانت من أجرأ نساء عصرها وأشدهن في طلب الحق.. وكان من حسن حظي أن أعاصرها لمدة ثلاث سنوات تقريبا حيث توفيت عام1951.. وشاءت الأقدار أن أعود إلي المنزل في أحد الأيام وأنا أشعر بالإحباط لعجزي عن استيعاب درس عن الحملة الفرنسية.. ولاحظت والدتي ذلك وكان فارق العمر بيننا ستة عشر عاما فقط فقامت بعمل رسم كروكي بسيط للبحر وكيف تقدمت السفن الفرنسية التي كان يقودها نابليون ودفاع الأهالي وفشل الاستحكامات.. وكانت لحظة مختارة وبدأ شغفي بالتاريخ وقصصه تلهب خيالي ثم التحقت بكلية الآداب جامعة الإسكندرية قسم تاريخ كان نظام التدريس يعتمد علي إعطاء رؤوس الموضوعات ثم نقوم بالأبحاث وإعدادها عن طريق القراءات الحرة بالإضافة إلي المحاضرات الثرية واذكر في السنة الأولي أن أحد الأساتذة الأشداء سألنا من الذي كتب عن( يفي) فأنا لم أمنحكم عنه أي معلومات فخشيت أنا أجهر بالحقيقة لعلمي أنه يفضل الطلاب علي الطالبات فخرجت وراءه وأفصحت عن شخصيتي فاستحسن البحث للغاية وأخبرني أنه منحني( امتياز) بالرغم من أنه لا يمنحها لأحد من طلابه كنت كالعصفور الذي لا يغرد إلا إذا صحا الجو.. وكانت هذه الواقعة بالفعل لها بالغ الأثر في تشجيعي ودفعي لمزيد من الدراسة والتفوق وحصلت علي امتياز خلال الأربع سنوات.
ثورة يناير أطلق عليها البعض ثورة منذ البداية والبعض الآخر تحفظ وسماها انتفاضة وبلغ الشطط بالبعض الآخر وأطلق عليها هوجة مثل هوجة عرابي.. بصفتك مالك في المدينة.. هل تستفتينا في هذا الأمر ؟
بداية ثورة يناير أيا كان مسماها فهي مازالت في طور التكوين, فالخيوط تنسج واللوحة تتضح يوما بعد يوم والأحداث تكتسب مسماها بفاعليتها وقوتها المؤثرة ولكن كل الدلائل والمؤشرات تشير منذ البداية إلي أننا بصدد ارهاصات ثورة جديدة.. سيترتب عليها تغيير في البنية السياسية والاجتماعية عن طريق إرساء مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. فأنا لا أتحرج في تسميتها ثورة.. لأن ثورات العالم لا تأتي بين عشية وضحاها إضافة إلي أن كل المؤشرات والمجالس العامة وأحاديث الناس كانت تشير إلي أن شيئا ما لابد أن يحدث فالأمور وصلت لمرحلة من التدهور والفساد بما ينذر بالخطر منذ ظهور مشروع التوريث ولكن لكل ثورة ظروفها وملابساتها.. فأول من أطلق علي ثورة يوليو هذا المسمي كان المرحوم سيد قطب عام1952 وليس طه حسين كما هو شائع وثورة يوليو بدأت برنامجا مكثفا بدأ بالإصلاح الزراعي.. عقب مرور شهر تقريبا علي قيامها وقامت بالعديد من الإصلاحات الجذرية التي شعر بها المواطن.. وعرف ميدان التحرير الحشود الجماهيرية اعتراضا علي محاكمات الطيران عام1968 عقب النكسة وكانت من بواكير لجوء الشعب لميدان التحرير وبالرغم من المحبة الجارفة لعبد الناصر فقد كانت الحشود تمثل أول تمرد علي هذه السلطة وانتفضت مصر للمرة الأولي بعد ثورة يوليو تلتها انتفاضة أخري في عهد السادات عام1972 الذي أطلق عليه عام الضباب, حيث( اللاسلم واللاحرب) واعتصم طلبة كلية الهندسة واستخدم أيضا ميدان التحرير للتعبير عن هذه الغضبة وتم تقييد النشاط السياسي واتحادات الطلبة في الجامعة وكان خطأ فادحا لأن السياسة تنمي شخصية الطالب وتساهم في تفتح وعيه العام ومن ثم حبه وانتماؤه لوطنه.. والنتيجة علاقة سطحية بين الطالب ومجتمعه ازدادت وهنا بقدوم رياح العولمة وكنت ألوم الشباب علي ميولهم الأمريكية لكني سعدت للغاية بما أظهروه من رجولة ووطنية في ثورة يناير.. فالانتفاضات عبارة عن هبات تزول بزوال السبب مثلما حدث في ثورة الجياع عام1977 حيث سحب السادات القرارات الاقتصادية.. أما كلمة( هوجة) التي أطلقها الناس علي ثورة عرابي فهي خضعت لمسميات الرأي العام الخاطئة.. فثورة عرابي ثورة عسكرية انضم لها كل الشعب وإن أجهضت فيما بعد لكن كلمة هوجة تعني أن الكل كان ثوريا ثائرا.. فانضم إليها الفلاحون والحرفيون والمثقفون والعسكريون وحتي الأغنياء كل منهم يلتمس تحقيق مصلحة ما.. فالشعب المصري كله كان يلهج باسم عرابي ويمتدح شجاعته في مواجهة الخديوي.
.. لكن لماذا فشلت ثورته وانتهت بنفيه إلي جزيرة سيلان ربما كان ذلك سبب ارتباطها بالهوجة في وجدان الرأي العام ؟
أحمد عرابي كان شخصية عسكرية تتسم بالقوة والصرامة والقدرة علي حشد الجموع وإقناعها وتوجيهها وكلها صفات أساسية لأي زعيم ولئن كانت دراسته العسكرية غير نظامية فإنه كان قارئا جيدا ومحاطا بكوكبة من رواد التنوير في هذه الأمة.. مثل محمد عبده وعبد الله النديم وجمال الدين الأفغاني والبارودي.. لكن الثورة فشلت لعدة أسباب منها ما هو متعلق بعوامل خارجية, حيث اجتمعت علي مصر انجلترا وفرنسا.. إضافة لبعض الانقسامات الداخلية وبعض الإغراءات والخيانات وعدم الكفاءة الحربية في بعض المعارك ويقال مثلا أنه ليلة معركة التل الكبير أقام في منزله ذكرا ولكن من الخطأ توجيه النقد من قاعدة زمنية مختلفة فلكل عصر تقاليده وعاداته أما العامل الأكبر من وجهة نظري فيعود بالأساس لقلة الحنكة السياسية لدي عرابي ورفاقه وهو عامل مهم جدا نعني به مدي إدراكه للألاعيب السياسية وكان للأسف نزرا يسيرا.. لذلك أجهضت الثورة وتم توجيه تهمة العصيان إليهم ونفيهم إلي جزيرة سيلان سريلانكا حاليا ويطلق عليها في المراجع الإسلامية جنة آدم لأنها أول مكان يستقبل آدم عقب هبوطه من الجنة وللأسف تركت سنوات المنفي أثرا سيئا علي عرابي ورفاقه وفي المنفي تعرف علي ليبتون صاحب شركة الشاي الشهيرة في سيلان وكانا يتزاوران وتتم دعوة عرابي لحضور حفل السفارة الإنجليزية بميلاد الملكة فيكتوريا وبعودته إلي مصر ومهادنته للإنجليز وتودده لهم فقد الكثير.
ولكن إذا كانت الميكافيللية تحكم العمل السياسي وهي بدورها تتعارض أحيانا مع القيم والمبادئ التي كثيرا ما تتبدل.. فكيف نحتكم إذن علي معيار لتقييم الأحداث تاريخيا ؟
الغاية تبرر الوسيلة لدي ميكافيللي وهو قول يشهد به عالم السياسة منذ الأزمنة السحيقة فالمصالح تتصالح والأزمنة تتناقض أحيانا مع بعض المبادئ ولا يعد ذلك أمرا مذموما علي الدوام.. ولكنه يمثل دلالة علي الوعي بمتغيرات العصر والأحداث ومواكبتها وهذا يختلف عن المداهنة وتبديل الآراء وسأضرب أمثلة عملية فسعد زغلول بزعامته التاريخية وشعبيته التي لم يصل لها زعيم ارتأي عقب ثورة1919 تعديل بعض مواقفه السياسية التي كانت تتسم بالمرونة والكياسة مع الإنجليز للحصول علي استقلالنا الوطني وأشهرها مبدأ خذ ثم طالب وكان يتقابل مع كرومر المندوب السامي والسلطان حسين كامل الذي مثل الحكم في ظل الحماية الإنجليزية.. لكن ثورة1919 بشعبيتها الجارفة منحته قوة ومنعة ومقدرة علي التشدد والمحاجة مع المفاوض الإنجليزي بصورة غير مسبوقة, لذلك فشلت مفاوضاته مع ملنر أما زعماء الحركة الوطنية حوله فكان كل منهم نسيجا قائم بذاته ففخري عبد النور كان من دعائم الوفد.. ينفق عليه بسخاء وهو من الأقطاب الذين قام علي كواهلهم هذا الحزب العريق الذي ولد لكل المصريين في حين ساهم حمد الباسل في إثراء الحياة البرلمانية بما عرف عنه من صفات بدوية تتسم بالشهامة والكرم والفروسية في تلطيف الأجواء السياسية وترطيبها وفقا لما ذكره سعد زغلول عنه في مذكراته.. وكان النحاس والنقراشي ومكرم عبيد وكل أعمدة الوطنية من عقلاء هذه الأمة بالرغم من تنوعهم سياسيا وثقافيا كقوة سياسية دافعة للأحداث.. فإن انشقاقات الوفد لم تكن كلها مما لا يحمد عقباه فبعضها ساهم في إذكاء بعض الأفكار الوطنية التقدمية التي كان تتسق مع العصر.. فوجود ميول سياسية أو حزبية لا غضاضة عليه.. بل السعي للسلطة ليس من صغائر الأعمال فالخلفاء الراشدين كانوا يسعون للسلطة وعبدالناصر, ولكن هناك فرقا بين السعي بالطرق القويمة وبين الدسائس والمؤامرات فالمعيار التاريخي الذي تحتكم إليه هو كفتا الميزان شأن ميزان العدالة فإذا رجحت كفة الإيجابيات مقابل السلبيات.. كان الحدث أو الثورة ناجحة وثورة يوليو بهذا المعيار نجحت تماما لأن إيجابياتها تفوق سلبياتها وعامة المؤرخ المحايد يحتكم إلي مصادر عديدة يستوثق منها الحقائق النسبية شأنه شأن القاضي الذي يستمع للمدعي والمدعي عليه وشهود العيان!!
ولكن ثورة يناير تفتقد زعامة أبوية روحية, الأمر الذي يشعرنا بحضرة الغياب التي تحدث عنها محمود درويش, فما هو السبيل لوجود زعيم لديه كاريزما وزهد النساك مثل عبد الناصر ؟
أنا شخصيا اختلفت قناعتي في هذا الصدد, في البداية كنت أشعر بتميز ثورة يناير لعدم وجود زعيم فمن عيوب الزعامة أنها تساهم في صنع الديكتاتور أحيانا وتخلق تابوهات لا يمكن المساس بها ولا تكتمل أبدا التجربة الديمقراطية وقد توأد في مهدها إلا أنني اليوم أتمني وجود زعيم له كاريزما بشرط أن يحتكم للقانون وينسي تماما شخصية الديكتاتور التي تجاوزها الزمان علي أن نتنازل له طواعية ونمنحه شئ من السلطة ثم نحاسبه في نهاية المدة شأن كل الدول العريقة في الديمقراطيات التي لم تعدم الزعماء وكانت جدتي تقول أن مصر تحتاج إلي زعيم كل خمسين عاما وأعتقد أنه آن أوانه لظهوره ولكن عموما يوجد غياب ربما غير متعمد لدور الأب عالميا وعلي المستوي الأسري لم تعد وفاة الأب تمثل حدثا جللا مثلما كان في الأجيال السابق,ة فالزمان أختلف بوسائله وأساليبه وانعكس ذلك علي شتي مناحي الحياة فعبد الله النديم كان يطرق الأبواب للتبشير بالثورة العرابية بينما كان الفيس بوك في ثورة يناير يجتاز حاجز الزمان والمكان.
رصدت معظم الثورات كمؤرخة وانفرد مبارك بكونه أول حاكم تقوم ضده ثورة ولا يغادر البلاد وتتم محاكمته لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.. ما تبعات ذلك علي الثورة؟
بالفعل أدبيات التاريخ تحمل لنا دائما فصولا عن ملوك في المنفي وبدءا من الخديوي إسماعيل والملك فاروق وشاه إيران وحكام أمريكا اللاتينية القاعدة العامة أن الحاكم الذي تقوم ضده ثورة يغادر البلاد منفيا ووجود مبارك ساهم في تعقيد الموقف وتصاعد التحديات التي واجهت المجلس العسكري لكن في نفس الوقت جاءت المحاكمة التاريخية لتلقي بظلال من الأمل في انقشاع الغمة وجلاء صوت العدالة والحق لنكتشف جميعا أن هذا( الهيلمان) ينخر به السوس منذ أمد بعيد مثل عصا سليمان الحكيم التي كان يتكئ عليها وهو ميت ولم يفطن أحد لوفاته إلا بعد تآكل العصا وسقوطه.. فهذه المحاكمة أعطت سمعه عالمية لمصر وأعادت إليها مكانتها وصدارتها بين الأمم وأمتصت الكثير من الغضب الشعبي.
وماذا عن قرار إلغاء اسم مبارك ومحوه من المنشآت العامة وكتب التاريخ إذا احتكمنا إلي الحكمة القائلة إن الحقيقة وسط بين نقيضين في ظل شهوه الانتقام التي تسيطر علي البعض؟
مبدئيا كان هناك إفراط ومبالغة في إطلاق اسم مبارك وقرينته حتي تجاوز الأمر أكثر من ستمائة اسم ولا توجد دولة في العالم المتقدم تضع صورة رئيسها في كل مكان مفضلين وضع الصورة في القلب والوجدان بإنجازاتهم وأدائهم لواجباتهم لكنني أيضا ضد أي تشويه للمناهج لكنها بالفعل كانت مشوهة ونصف المنهج المدرسي في التاريخ كان عن مبارك, فالكتب المدرسية اعتراها الكثير من السطحية في العقود الماضية وغلب عليها الطابع التجاري لا العلمي فالتاريخ سلسلة مرتبطة الحلقات من التاريخ المصري القديم حتي التاريخ المعاصر ويجب أن يتم الفرز ثقافيا واختيار ما يتواءم مع الجميع ولا يمس المواطنة أو الأديان أو الطوائف حتي لا نربي الكراهية واضحكني أن أري صورة لأحمد مظهر في فصل عن صلاح الدين الأيوبي استنادا للفيلم السينمائي لكننا يجب أن نفطن إلي أن المحو التاريخي يعد خرقا أخلاقيا يتجازوه الواقع بثقله, فلابد أن تظهر الحقائق للنور, فلم تكن محاكمات ثورة يوليو من الشمائل السياسية لأنها لم تكن محاكمات مدنية ولم يكن إخفاء صورة الملك فاروق في الأفلام السينمائية إلا استخفافا بالعقول والأمر كذلك لمزاد بيع مقتنيات القصور الملكية عام1954 الذي بيعت فيه ممتلكات الشعب بأبخس الأسعار وهي مقتنيات من العار بيعها لأنها جزء من إرثنا وتاريخنا والانتقام في الثورات والتشدد يستدعي سيرة روبسبير ومذبحته والذي كان يقول لا حرية لأعداء الحرية ويؤسفني أنني سمعت أحد الأشخاص يطالب بتطرف روبسبير ويعترض البعض علي أحكام القضاء بالرغم من أنه درجات فهل سنعود لشريعة الغاب؟ فنحن لا نريد( يعاقبة جدد) يستلهمون من الثورة الفرنسية أبلغ مساوئها والتي تجلت في إفراز شخصية إمبراطورية مثل نابليون والذي كان يطلق عليه ابن الثورة ومطفئ شعلتها فالمقصلة مازالت حاضرة في الأذهان بالرغم من شعارات الثورة الفرنسية التي صدرتها للعالم أجمع إضافة إلي أن ثورة يوليو لم ترصد تجربة سابقة فأقصت من البداية فأنا مع إقصاء الرؤوس الكبري التي أضطلعت بالأحداث فعليا علي أن يتم ذلك برشد فلا يتم إقصاء موظف بسيط حصل علي كارنيه للحزب الوطني لقضاء بعض حوائجه.
طرق تدريس التاريخ تنشد الإصلاح علي مستوي المناهج كما ذكرت, فماذا عن مستوي القراءات التاريخية الحديثة التي تشكك في بعض المسلمات التاريخية مثل الجبرتي وهل كانت مصر بلدا خامدا أيقظه نابليون؟
التاريخ من أهم المواد التي يدرسها طلاب الجامعات إجباريا منذ السنة الأولي في العالم المقدم حتي طلبة الطب يدرسون التاريخ فمن لا يعرف التاريخ قد يعيد نفس الأخطاء ودائما أقول لو كان هتلر استوعب فشل نابليون وأسبابه في غزو روسيا لما أعاد هذه التجربة الفاشلة فالمعرفة التاريخية وقراءة التاريخ وثيق الصلة بحركة تقدم المجتمع وارتفاع مستوي الوعي العام بالقضايا الآتية والاستبصار بجذورها ومحاولة حل المشاكل أو السعي لحلها وتوجد حقائق تاريخية غير منتشرة بين العامة فالإسكندرية علي سبيل المثال احترقت عام1882 ولم يعرف حتي يومنا هذا من الذي حرقها مثل حريق القاهرة؟ ومنذ عشر سنوات يوجد اتجاه لضرب الرموز الوطنية وتشويهها علي نطاق ممتد مثل الجبرتي بالرغم من أنه قدم لنا مائدة عامرة بالأحداث والتفاصيل التاريخية والأمر كذلك لعلي مبارك وابن اياس وكل ما قيل عن الاستعمار العثماني من كتابات مع الأخذ في الاعتبار أنني أتحفظ علي مسمي( الاستعمار) لأن من يستعمر الأرض يبني ويزرع وينشئ فنحن ارتبطنا بالعثمانيين قرونا وكانت مصر حتي عام1929( عثمانلية) قبل صدور قانون الجنسية بل إن أول دعوة تدعو مصر للمصريين جاءت متأخرة في عهد الثورة العرابية أطلقها أديب إسحاق.. واليوم عادت تركيا أو العثمانيون الجدد بوجه جديد واستطاعت أن تمسك العصا من منتصفها فعينها علي أوروبا وأسواقها وثقافتها مفتوحة علي الشرق الأوسط والعالم العربي وعموما توجد أبحاث عديدة اليوم تهيل التراب علي كتابات سابقة وتتحدث عن الوجه المظلم فقط لكننا في النهاية كمؤرخين نقول كلمة حق ويحاسبنا التاريخ فلابد أن نراعي الله. أما الحملة الفرنسية فأننا لا ننكر أنها أحدثت رجة في المجتمع المصري لكنه لم يكن هامدا كان مجتمعا يقظا وأذكر عبارة ذكرها الجبرتي تحمل معاني الانهزامية الفكرية حين شاهد المعامل والصناعات فقال: الحمد لله الذي خلقهم ليفعلوا هذا حتي نتفرغ نحن للعبادة!! وكأن الدين نقيض للعمل والإنتاج فدور المثقف في الثورات أشبه بالمنارة التي يستضئ منها المجتمع.
علمنا التاريخ أن أجهزة المخابرات تعبث في البلاد في أثناء الثورات وفي ثورة يوليو كان يوجد جناح علي صبري المعروف بصلته بالأمريكان وكيرميت روزفلت من منطلق وطني لتأمينها. فما تقييمك للدور المخابراتي في ثورة يناير والشائعات التي أحاطت بذلك؟
أجهزة المخابرات تحاول اختراق معظم الثورات في( المطلق) لمصلحتها في المقام الأول في ثورة يوليو كان ناصر فطنا لهذا منذ البداية والمراسلات بين لندن وواشنطن كانت تؤكد عدم تدخل الأمريكان إلا في حالة وجود لون أحمر أي شيوعي, أما ثورة يناير فالموقف الأمريكي كان مرتبكا ومتناقضا فهي ثورة شعبية عارمة داهمتهم لكنهم يملكون رصيدا من التدخل في ثورات أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية وأفريقيا.
تنتمين لمدرسة تاريخية تنشد البساطة فماذا تقولين عن أبرز المؤرخين ورؤيتك الإستشرافية لمستقبل مصر؟
أعتز بأنني تتلمذت علي يد شيخ المؤرخين محمد أنيس حيث أشرف علي رسالتي الماجستير والدكتوراه وسمح لي أن أكون تلميذته أما يونان لبيب رزق فكان متحررا من سيطرة النص التاريخي ومنحته اللغة الصحفية سلاسة وعمقا وأتنبأ للمؤرخ الشاب خالد فهمي بمستقبل واعد لأن له قراءات ودراسات متميزة للغاية وأنا لا أخشي علي مصر الآن إلا من الفرقة والمطالب الفئوية وليس هذا أوانها علي الإطلاق وأتمني أن يوفقنا الله في البرلمان القادم لأنه سيضع مستقبل مصر السياسي علي المحك وبالرغم من تداعيات الثورة وكل الظروف العصيبة التي تمر بها مصر من كل الجوانب ستظل دائما في القمة والصدارة وسوف تحيا من جديد, فمصر المكان والمكانة أقوي من الزمان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.