فى منطقة الخيامية ثلاث سنوات قضاها كيم بيمش المخرج الاسترالي للانتهاء من فيلمه الوثائقي الطويل "صناع الخيام في القاهرة"، تلك الفترة التي اقترب فيها من حياة فناني الخيامية بل غاص بعمق في أدق تفاصيلها وتفاصيل حرفتهم التراثية التي يجاهدون للحفاظ عليها والاستمرار فيها بعد أن هجرها كثيرون بسبب ما تعانيه من مشكلات، من بينها تلك الأزمات المالية التي كادت تعصف بأصحاب الصنعة نتيجة الركود الاقتصادي. ولكن فيلم كيم لا يمكن اعتباره فيلما وثائقيا عن حرفة الخيامية، وإنما هو بالأحري فيلم اجتماعي سياسي يسرد تفاصيل ثلاث سنوات من الاضطرابات التي عاشها المجتمع المصري بداية من ثورة يناير، ملقيا الضوء علي قصة الصراع من أجل تحقيق الديمقراطية التي تجلت في شعار "عيش.. حرية .. عدالة اجتماعية" وذلك من خلال حياة مجموعة من الحرفيين الفنانين، لتتحول منطقة الخيامية إلي نموذج حي يعكس نبض المجتمع المصري في فترة هامة من تاريخه بداية من ثورة يناير وكل ما تلاها من أحداث مرورا بتولي محمد مرسي الرئاسة ، ثم أحداث 30 يونيو وانتخاب السيسي رئيسا لجمهورية مصر العربية. يبدأ الفيلم بحديث أحد الشخصيات الرئيسية عن تلك الضائقة المالية التي يمر بها نتيجة ركود حركة البيع عقب ثورة يناير وتلك المسئوليات الملقاة علي عاتقه والطلبات المتزايدة يوما بعد يوم . إن أبطال الفيلم- إن جاز التعبير - أو الشخصيات الرئيسية يظهرون علي الشاشة بأسمائهم الحقيقية، ليمارسوا حياتهم اليومية بتلقائية شديدة وكأن الكاميرا لم تكن موجودة وعندما سألت كيم عن ذلك أجابني: لقد عشت وسطهم أكثر من ثلاث سنوات فأصبحت واحدا منهم، وكان أطفالي يلعبون مع أطفالهم، وكنا نتبادل الزيارات، بعد بعض الوقت اعتادوا وجودي ولم تعد الكاميرا تسبب لهم إزعاجا. كانت تلك المساحة التي خلقها كيم مع أهل المنطقة هي سر نجاح الفيلم، حيث شعرت فعلا بالدهشة أن يناقش صناع الخيامية تفاصيل الصنعة بأسرارها، بل وأن تدخل الكاميرا بيوتهم، ليخرج الفيلم شديد الواقعية، وتتحول المناقشات السياسية إلي جزء لا يتجزأ من حياة هؤلاء الناس اليومية، وهو ما كان يحدث بالفعل داخل كل البيوت المصرية. وربما تسمع في الخلفية صوت مشاجرة، أو تشاهد لقطات من الميدان في شاشة التلفاز الموجودة بمحل حسام الفاروق، الذي يعمل بالمهنة منذ أكثر من عشرين عاما والذي تعلم علي يد أخيه الأكبر إكرامي . ويمكنك أن تتعرف علي أي من أبطال الفيلم إذا تجولت بمنطقة الخيامية، حيث قابلت حسام يجلس بالمحل كما شاهدته أثناء عرض فيلم "صناع الخيام في القاهرة" الشهر الماضي بمركز درب 1718 بمنطقة مصر القديمة، وسألته إذا ما كان شاهد الفيلم فأجابني بنعم، وعندما سألته عن سر تلك التلقائية في الحديث أمام الكاميرا أخبرني أنهم أحيانا كانوا ينسون أن كيم يقوم بالتصوير حيث كان يمكث ساعات طويلة حاملا الكاميرا ولابد أنه سجل عشرات الساعات انتقي أهمها . كان محل حسام من المحلات الملفتة المليئة بالقطع البديعة والتصميمات التي تنوعت بين الفرعوني والإسلامي، كما قدم حسام أيضا القصص بقطع القماش مثل قصة جحا، وراقصي المولوية وكذلك اللوحات البديعة كلوحة الحصان بالخط العربي، وحسام واحد من القلائل الذين يملكون محلا وكذلك يمارس الحرفة بيده، ففي الغالب يلجأ أصحاب المحلات للحرفيين الذين يعملون من بيوتهم ويبيعون انتاجهم للمحلات. ومع توالي الأحداث السياسية يجد المشاهد نفسه منتقلا بين تلك الأحداث وتأثيرها علي رجل الشارع، وبين حرفة الخيامية وتفاصيلها وتلك المشكلات التي يتعرض لها العاملون بالمهنة، وكذلك المعارض الخارجية التي أقيمت لفن الخيامية في الخارج ومدي إقبال الأجانب عليها، حيث يقول حسام: لقد ساعدتنا المعارض الخارجية والطلبيات في الاستمرار وتجاوز الأزمة المالية . والخيامية كانت ولا تزال واحدة من أهم الحرف التراثية المرتبطة برمضان، حيث تسعي الكثير من الفنادق والمطاعم السياحية إلي إقامة الخيم الرمضانية وتزيينها، إلا أنه ومع ظهور القماش المطبوع وزيادة أسعار الخيامية اليدوية أصبح الكثير من الزبائن يسعون لشراء الأقمشة المطبوعة .. سنوات طويلة قضاها حسن كمال في المهنة .. حيث يقول: الأصل في الشغل يدوي، ولكن زبون اليدوي قل خاصة مع ظهور الأقمشة الطبع، وهو ما دفع الكثير من المحلات إلي الإغلاق خاصة بعد ثورة يناير وغياب السائح وربما لهذا السبب هناك انخفاض في الأسعار، ويضيف حسن أن السعر يتغير حسب العرض والطلب، مستطردا أن المصريين بدأوا في العودة لشراء الخيامية اليدوية خاصة العرائس اللائي يسعين لعمل ركن عربي ببيوتهن، أو تزيين أحد الجدران بلوحة فنية من الخيامية، وهو ما دعم صناعة الخيامية وساعدها علي الاستمرار خاصة في ظل الهزة القوية التي تعرضت لها الصنعة مع غياب السائح. أما محمد يحيي الذي حول محله تقريبا لعرض منتجات القماش الطبع فيقول: إن الطباعة هي الرائجة في رمضان، وخلال هذا العام ظهرت العديد من المنتجات الرمضانية التي يتم تنفيذها باستخدام قماش الخيامية المطبوع وبفكر جديدة ومنها الفوانيس المصنوعة من القماش الطباعة، والأطباق والعياشات، والطبالي والبوف جميع لوازم القعدة العربية، وهو ما يقبل عليه الزبون نظرا لرخص سعره. إن جولة بمنطقة الخيامية كفيلة بأن نعيد التفكير في نظرتنا لفنوننا التراثية، فماذا لو لجأ من تبقي من أصحاب المحلات لمنتجات الأقمشة المطبوعة بدلا من المنتجات اليدوية حفاظا علي مصدر دخلهم، ماذا لو هجرها من تبقي من الحرفيين المخضرمين هربا من تلك الضغوط المادية التي يتعرضون لها، لا سيما وهي مهنة مجهدة تحتاج صبرا ووقتا وروجا خلاقة .. هل يمكن أن نفقد حقا فنا بديعا مثل الخيامية لأننا لم ننتبه جديا لذلك الكنز الذي بين أيدينا؟ ماذا لو أن دعمنا لهؤلاء الفنانين قد يبدأ من شراء قطعة صغيرة من آن لآخر بدلا من الهدايا التقليدية المستوردة.