يصارع ثقافتين ليس سهلا أن ينفلت من تأثيرهما.. الانتماء لموظف حكومة، يري أن الأمان كله في هذا المعني، وجيل كامل توزعت أحلامه في دول الشمال الغني فهاجروا إليها. العاصمة ابتلعت كل الفرص، فوقَّّع علي أمر التكليف وعلي الإقرار الذي يمنعه من المطالبة بالنقل من هذا الإقليم البعيد قبل أن تنتهي السنوات الخمس. أقاربه ليسوا مؤثرين كي يغيروا حركة الأقدار. تفاصيل ضاغطة وأحلام مؤجلة؛ وغربتان كالهواء يتنفسه عنوة. ربما ضاعت البركة من الوقت وصار العام كالشهر، واليوم كساعة من نهار، لكن ثقل السنوات علي نفسه كان مؤلما . مثالي متطرف، يريد كل الأطفال في المدرسة يتحدثون الإنجليزية كأهلها.. كم أجهدته هذه الرغبة، لغة جميلة لكم عانت من طرق التدريس البدائية. كان مقنعا، حقق لنفسه شعبية محدودة كمحدودية المكان الذي تم نفيه إليه، روحه وطريقة تدريسه تستطيعان ترك أثر طيب في نفوس تلاميذه. خرج من سجنه وعاد للعاصمة، ربما أفتقد إحساس الهدوء والبكارة في هذا الإقليم البعيد، الهواء الخفيف والتواصل الحميم مع تلاميذ لا تشغل حيزا كبيرا من فصل واسع لا زحام فيه. الأقدار ضحكت، تذكر إنه ربما محتاج أن يتزوج أو يحب علي أقل تقدير، أودع أبوه باسمه حصة لا بأس بها من مال صندوق الزمالة، والباقي لجهاز البنتين، مبلغ إذا أضيف لمدخراته ربما صنع شيئا ضئيلا، ولكنه مقبول. كيف لم يحب طيلة هذه السنوات؟ كيف ابتلعته دوامات البحث عن سراب مجهول في بلد لا يحتفل بالبسطاء ولا بأحلامهم؟ عام دراسي جديد ربما حمل معني البشارة لرجل مرغم علي البقاء في ظلال شجرة ملعونة، ينعتونها وطنا. كأي جديد كان متحفظا، طابور الصباح، كلمة المدير، بقايا النوم في عيون الجميع. والمدينة، فيلم رعب يحتاج لشجاعة استثنائية. في جزء من الثانية ربما شعر إنه قد وجد نصيبه.. يا الله!! ما هذا الوجه الطفولي الجميل والبريء ؟ جلس في غرفة المدرسين، ولم يشغله إلا النظر إليها، هكذا يكون الجمال وتبا لصوفي مارسو، أو ديمي مور . كان يخشي نظرات المتابعين لاندهاشه، أحبها مؤكد، صادقون حتما من قالوا بالنظرة الأولي. مالها تتعثر حين همت بالقيام، لماذا تستند علي المائدة في ضعف؟؟ تحركت، سارت أخيرا فأعلنت عن شلل أطفال مؤلم جدا. من العدل أن نعينها علي القدر، لا أن نعين القدر عليها، لا ليست هذه هي الآفة التي تلغي هذا الجمال المبهر، حتما سأتزوجها إن لم تكن مرتبطة. حياة كاملة دارت برأسه، لم يرد أن يؤجل الفكرة، سأل عنها، وجدها خالية وجاهزة للحب والزواج، الجميع يحبها، يشيد بها، سجاياها معجزة؛ وحين التقت النظرات وجد قبولا مشجعا. عرض الفكرة بتفاصيلها علي أهله، عرض كل خصالها؛ لم يجد اللغة التي تعينه علي وصف جمالها وصفا منصفا؛ وصل للمنعطف المفصلي في القصة كلها.. مصابة بشلل أطفال في حالة ظاهرة نوعا. لحظات صمت طويلة جدا، مشاورات هامسة وآراء خرساء مندهشة، منزعجة، تستبعد أن يحدث موافقة تسعده. إن الرجل إذا تزوج فإنه يريد زوجه تخدمه، تعينه علي تبعات الحياة، تنهض في قوة لإنجاز طلباته، لا أن يقوم بدور الممرض والمعين، لماذا يحكم الإنسان علي نفسه بالشقاء؟ هي حتما تريد عكازا وليس زوجا؛ المعاناة قد تقتل أشد حالات الحب سموا. انتهت الأمواج العاتية من آراء الأسرة في المسألة، وبدأ في الرد العنيف المهذب، أتهم الجميع بقسوة القلب وزوال الرحمة، عجزها ليس نهاية للحياة، وإنه بنفس راضية يقبل أن يكون عكازا مادام سيحبها وتحبه. حددوا موعدا لزيارة أهلها، استجابوا علي مضض، ربما أدركوا أن الرحمة واجبة في هذا الظرف، الكمال أو الاكتمال محض عبث، كلنا عاجزون ولكننا لا ندري أحيانا. انتهي الترحيب، وانتهي أهل البيت من تقديم الساخن والبارد وبدأ التورط في التفاصيل؛ الشبكة المهر؛ الشقة ، الأثاث ، الفرح وتفاصيله. أهلها بدوا وكأنهم لا ينتمون إلي هذه الدنيا الصعبة علي شاب في ظروفه، بنود عادية تحدثوا فيها، لكنهم لم يبدوا أي رحمة به وبطبيعة وظيفته التي ما كان لها أن تحقق النذر القليل مما تحدث فيه أبوها، وقامت بالتأكيد عليه أمها. لم يحدث أي جدل، لم تتطرق أسرته إلي نقاش هذه الطلبات المبالغ فيها، كان الصمت هو درع هذه الأسرة التي تواجه طوفان من طلبات معجزة، نظر إلي والده نظرة تدعوه لأن ينهي هذه الجلسة، ومن ثم نفكر في الأمر.. خرجوا جميعا مكللين بالذهول، عادوا سريعا إلي البيت وجلسوا تحت ستار الصمت الذي امتد منذ دخلوا إلي بيتها حتي عادوا. نظر إلي والده، كسر الحاجز وسأله.. تُري لو كانت بلا هذه الآفة كيف ستكون طلبات هذا الأب الغائب عن الوعي؟؟ ضحك ضحكة مجلجلة، ها هو يفكر بطريقة أبيه القاسية التي لم تستوعب شللها، كيف تسني له أن يتهم أسرته بالقسوة حين أبدت اعتراضها علي عجزها؟ ولِما لم يشفق عليه أبوها وهو يعرض هذه الطلبات الكبيرة؟ اعتذر لأبيه أن دعاه للرحمة، وقام للنوم، فمدير المدرسة لن يرحمه، إن تأخر عن الحصة الأولي . الجنون حب المال، السلطة، ومضاجعة النساء كلها شهوة، وإن اختلفت في قناعاتنا مفاهيم اللذة. منذ استهلال القصة يعرف طريقه، طموحه، الجهة التي يتحرك نحوها قطار العمر. الوقت ملكه، وفورة الشباب ستستحيل إلي غرام وانتقام، إذا لم يحقق الحد الأدني من طموحه. عرفته باكرا، يشاركني جمال الخط، وسرعة الخاطر، ولم يشاركني الرضا.. يتكالب علي الأشياء، في أي ثوب. تقدم العمر نسبيا، فلم يشاركني العزوف عن الزواج، استثمر بعض المواهب في إنتاج حالة عاطفية ليس لها أساس، فتاة لا رصيد لها إلا منصب أبيها الكبير، والهام والغامض. مازحته يوما، فخاصمني عشر سنوات، في احتفاله بعيد ميلاد أبنه الأول أعلنته.. إن مجاورة سيدة كزوجتك، يستحق جائزة، كيف بالله تستقبل وجهها في ساعات الصباح الأولي، والذي أتفق الناس، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم أن له عينين. رمقني بغضب وأعطي إشارة إنني غير مرغوب ببقائي أكثر من هذا. خرجت، ولم أكن حزينا، لكن تخيلت في لحظة عمياء أن يتفاعل مع المزاح علي اعتباره تقريرا عن أمر واقع. لما طالت القطيعة، لم أربطها بفداحة ما ارتكبته، رحت لكون المنصب وصعود نجمه المتسارع مؤكد سيضع الصداقات القديمة علي المحك. اتصل بي صديق مشترك يدعوني للقاء ثلاثي يجمعنا معا. وعلي النيل كانت الملحمة، حُرَّاسهُ الشخصيين أصابوني بارتباك حقيقي، كنت أسأل نفسي سرا.. ما كل هذا؟ الطريقة التي يتعامل بها مع الناس كانت مقبولة من قيصر عتيد قبل أن تسقط القسطنطينية، والخوف والرهبة عنوانان لكل من اقترب من المائدة التي جلسنا عليها. حديث طويل، ربما غلبت عليه بعض البهجة، فلا أظن إنه يكرهني، ولكني زالف اللسان، وسليط أحيانا، وماضينا المشترك كان ضاغطا ومؤلما، وربما يعيقه لأن ينتحل كل آيات الصولجان والسلطة، ولولا الاحتياط لسعي لقتلي كي يموت هذا الماضي ويلحقني في قبري. انتهت سنوات الخصام، وعلمت إنه قد رزق بطفل ثان عمره سبع سنوات. كتمت ضحكتي كي لا أنطق مجددا دهشة السؤال.. كيف ضاجعها مجددا بعد الكارثة الأولي، فلقد ظننت أن علاقته بفراش هذه السيدة قد انتهت للأبد بعد مجيء الطفل الأول. لكن هنأته في كل الأحوال، ودعوت له بالعمر المديد الذي يمكنه من رؤيتهم أعظم الناس. ولم ينس أن يعرض أي خدمة، ولم أنس بدوري أن أرفض في أباء، متعللا أن صداقتنا يجب أن تسمو فوق أي معني للمنفعة. لا أذكر المشكلة التي دفعتني دفعا لأن أقابله في مكتبه، يومها اتصلت بصديقنا المشترك كي يدبر ميعادا، ربما مسألة تشابه الأسماء التي كان يصادفها أخي الصغير قادما أو راحلا من مصر، والتي جعلته آخر من يركب الطائرة وآخر من يغادرها. وكانت علتهم أن اسمه يشترك مع واحد ممن يجاهدون في أفغانستان. حرصت علي تنعيم لحيتي، وحذائي، وارتديت أفخر ما أملكه من ثياب، وتعطرت من زجاجة أهداني إياها صديق لا ينقصه العطف. لم أشعر بأي حزن أو إهانة كوني انتظرته طويلا خارج مكتبه، كنت أتوقع هذا السيناريو المعتاد ممن هم علي شاكلته، حتي جاء صديقي بدوره، وبعد أقل من دقيقة دخلنا إليه. لم يكن جالسا علي كرسي مكتبه، بل علي أريكة ويلاعب طفلا عرفنا بعد لحظات إنه الولد الثالث، قام منتصبا، حيانا، وجلسنا موزعين ما بين يمينه ويسراه. والطفل يركض حولنا، حاملا مسدسا بلاستيكيا، يطلق طلقات، تحدث انفجارا بسيطا، يليق بلعبة للأطفال. قام ليدق الجرس في طلب موظف، دخل إلينا بعد أقل من دقيقة، تصادف فيها أن أطلق الطفل واحدة من طلقاته، فإذا بهذا الموظف البالغ التهندم يسقط، في حركة تمثيلية تقنع الطفل إنه قد مات من أثر الرصاصة الخرز. ربما ضحكوا فيما عداي. كنت مندهشا ولا أدري ما يحدث يقينا في هذا المكتب الباذخ في فخامته. منحه الورقة التي خط فيها اسم أخي رباعيا، وطلب منه حذف هذا الاسم من قوائم الترقب والانتظار نهائيا.. خرج الرجل بعد أن