لم يكن محمود أبو الفتح يستحق ما حدث له -فالرجل الذي ارتبط بتجربة فريدة من نوعها، هي تجربة جريدة "المصري" التي أسسها ورأس تحريرها وصعد بها إلي قمة الصحف المصرية توزيعاً وتأثيراً- تم الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ومصادرة 358.438 جنيهاً من أمواله لصالح الشعب. كان أبو الفتح مؤيداً لثورة يوليو ورجالها بلا حدود، حتي وقع الصدام الذي يدور حول الأسلوب الذي ستتبعه الحركة في الحكم، الديمقراطية وعودة الجيش إلي ثكناته بعد انتخابات برلمانية نزيهة أم الاستمرار في السيطرة العسكرية المباشرة؟ وبالطبع كشف الضباط عن ميل سافر إلي التسلط الديكتاتوري وهو ما رفضه أبو الفتح ورفض مظاهره مثل الدعوة المريبة لتطهير الأحزاب تمهيداً لإلغاء التعددية الحزبية! أبو الفتح هو صاحب فكرة إنشاء نقابة الصحفيين وقد تقدّم باقتراحه هذا سنة 1941، وحينما اشترطت الحكومة توفير مقر مناسب للموافقة علي المشروع تبرّع الرجل بشقته في عمارة الإيموبليا، وبعد الموافقة علي إشهار النقابة كان طبيعياً أن يجمع الصحفيون علي انتخابه أول نقيب للصحفيين في مصر. يقول مصطفي بيومي مؤلف كتاب "محمود أبو الفتح.. الصحافة والوطن" الصادر عن وزارة الاستثمار إن أبوالفتح (المولود في الخامسس عشر من أغسطس 1893) بدأ مراسلاً لجريدة "وادي النيل" السكندرية، بمرتب شهري لا يزيد عن جنيه ونصف، وانتهي مالكاً لصحيفة "المصري" ذات النفوذ والتأثير غير المسبوق في تاريخ الصحافة المصرية، وصاحبة الأرقام التوزيعية التي حطّمت كل ما قبلها من نجاحات، وبين البداية والنهاية تنقل بين عدّة صحف، وانفرد بأكثر من سبق أشهرها ركوب المنطاد "زبلن"، فهو الصحفي الوحيد الذي استطاع الصعود إلي ذلك الاختراع الألماني الجبار في رحلة تاريخية تابعها العالم شرقاً وغرباً، ومن داخل المنطاد كان يوافي قرّاء "الأهرام" بتغطية فريدة تناقلتها وكالات الأنباء، كما انفرد بخبر اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون! ولكن كيف جاء التفكير في تأسيس "المصري"؟ لقد حدث ذلك بمجرد توتر علاقته بالأهرام، كان أبوالفتح يحصل علي راتب ضخم للغاية عن منصبه كسكرتير تحرير للأهرام (سبعون جنيهاً) ولكن بعد أن تجاوزه الاختيار لرئاسة التحرير شعر بالإهانة وبدأ التفكير في إصدار جريدة يومية مصرية خالصة، تتبنّي خطاً وطنياً صريحاً يخلو من الحسابات والتوازنات، واستطاع أن يحقق حلمه الكبير مستعيناً بقرض من بنك مصر وتزكية مباشرة من طلعت حرب. يعلّق بيومي: "المشروع الصحفي الناجح علي المستويين المهني والاقتصادي رفع من أسهم محمود أبو الفتح علي الصعيدين السياسي والاجتماعي، وهو ما أثر بدوره علي سمعة الجريدة فازدادت توزيعاً وانتعشت إعلانياً وحققت المزيد من الربح. لم تكن المكانة التي حققها أبو الفتح محلية فحسب، بل إنها امتدت إلي الساحتين العربية والعالمية، وليس أدل علي ذلك من السمعة الطيبة التي كان يحظي بها الكاتب الكبير في عديد من الدول الأوروبية، فضلاً عن الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد تحوّل بحق إلي شخصية دولية لامعة".. تأسست الجريدة بمشاركة ثلاثية: محمود ابو الفتح ومحمد التابعي وكريم ثابت، لكن التابعي باع حصته للوفد، واشتري أبو الفتح حصة كريم ثم تلاها بنصيب الوفد وآلت الملكية كاملة إليه، ولم تكن الجريدة عبر سنوات عمرها (18 عاماً) حزبية ضيقة، فقد كانت وفدية التوجّه دون التزام صارم، وكانت معنية بالشكل الصحفي الجذاب، والأخذ بأساليب التحرر العصري. يقول أبوالفتح في افتتاحية العدد الأول: "عصر الاختزال والسرعة والوصول إلي الهدف من أقصر طريق، عصر الأخبار والأخبار والأخبار ودائماً الأخبار، فلن تجدوا في المصري صفحة كاملة عن أيهما أفضل: البحتري أو أبوتمام؟ كلاهما عندنا رجل فاضل نرضي أن نقرأ علي روحه الفاتحة، ولكننا لن نقرأ له سبعة أعمدة"! استقطبت الجريدة عدداً كبيراً من المثقفين والكتّاب، وكانت الجريدة الأولي التي تستكتب المبدعين بحيث يتفرغون لكتابة القصة وينشرونها عبر صفحاتها، وهو ما يعني أن أبوالفتح كان مؤمناً بقيمة الإبداع في نهضة المجتمع. الرجل لم يتزوّج وشكت قوت القلوب من صده لكل معارفها ولكنها هي التي أشرفت علي غسله عند وفاته في ألمانياالغربية وبقيت علي وفائها له حيث علقت صورة كبيرة له في بيتها بالقاهرة وكانت تبدأ يومها كل صباح وتختمه في المساء بالصلاة تحت الصورة ترحماً عليه!