يحدق في الظلام ساهماً قبل أن يغمض عينيه ويغرق في ليل ماطر لقريته التي أصبحت أسمنتية.. بعد أن تقلصت المساحات الخضراء.. حتي الأشجار ذبحوها لتصبح مقعداً بارداً في حديقة لا يرتادها أحد.. أو طاولة ليست للوجهاء.. وإنما للبسطاء يتناولون عليها طعامهم.. ارتفعت العمائر إلي طوابق عدة.. بعد أن كانت دوراً أرضية بالطوب اللبن.. اشتاق لخبز أمه.. العيش المرحرح والبتاوي الذي كان يغمسه في العسل الأسود.. ثقافة القرية تغيرت بعد أن عرفت الدجاج المجمد والصدور المقرمشة بخلطات التوابل والبطاطس نصف المقلية.. بعد أن تبدلت محلات البقالة إلي سوبر ماركت مزودة بالثلاجات.. الشيء الوحيد الباقي في القرية هو طيبة أهلها.. والمشاعر النبيلة الدافئة فيما بينهم.. تذكر كتّاب القرية وعصا الشيخ أبوستة التي كانت تلهب ظهره حين يتقاعس عن حفظ القرآن.. لو كان موجوداً لقبّل يده.. فهو من أوصله إلي درجة وكيل وزارة.. لم يكن يتقاضي نقوداً وإنما بعض من كيزان الذرة وحفنة من الأرز وبعض من بيض الدجاج.. يحل ضيفاً علي موائد الغداء في كل دور القرية.. وهو للحقيقة لم يكن ضيفاً ثقيلاً.. كان الصغار يلتفون حوله لأنه كان حكاء جيداً للحكايات التي حدثت والتي لم تحدث.. وأغلبها من نسج خياله الذي لا ينضب.. وكان الجميع بلا استثناء لا يتأخر عن طلبات الشيخ.. حتي لا تصيبهم لعناته وسبابه غير الجارح. حكي عن والده الشيخ عسران والذي سمي بذلك لأنه كان يأكل ويضرب الأولاد أثناء حفظ القرآن بشماله.. قالوا له يوماً: إن الشيطان يقاسم طعام من يأكل بشماله.. فشرب سم الفئران ليقتل الشيطان.. يومها تلوي من الألم وأعطوه شربة زيت فتقيأ الطعام.. ونجا من الموت.. حكي أيضاً عن أبيه الذي كان يلقي دروساً في المسجد الصغير.. إنه من بين ما قال أثناء خطبته في المسجد: إن الكلب حيوان نجس.. إذا بال علي جدار بيت.. لابد من إزالة الجدار!! جاء أحدهم بعدها بأيام للشيخ عسران قائلاً: الكلب يا سيدنا بال علي جدار بيتكم..!! قال عسران: قليل من الماء يطهره. بعدها توقف عن إعطاء الدروس بالمسجد.. بعد أن انفض من حوله المصلون، واكتفي بتحفيظ القرآن للصغار في حجرة صغيرة من البيت سميت بالكتّاب والتي توارثها ابنه أبوستة والذي سمي بهذا الاسم لأن له إصبعا زائدة في قدمه اليمني.. كان يكتفي في بعض الأحيان بثمرة برتقال إذا وجدت وقليل من الشاي الجاف ومعلقتين من السكر ليحتسي وحده كوب الشاي الذي كان يعده في منزله علي وابور الجاز.. ولأنه كان في السبعين من عمره.. تعوقه بطنه المدلاة أمامه عن الحركة.. فقد اشتبكت النار يوماً في جلبابه.. فأخذ يصرخ.. واستطاع الجيران إطفاء النيران بالمياه.. يومها غرقت حجرته بالمياه.. والتي قال عنها: لا شيء يهم أمام نجاته من الموت.. سأله أحد تلاميذ الكتّاب: كيف أمسكت به النيران.. والنار لا تحرق مؤمن..؟! أجابه أبوستة: اسكت قبحك الله.. المؤمن دائماً مصاب. مات عسران وولده وبقيت حكايتهما التي لا تموت.