نشأت الديهي: الاقتصاد المصري في المرتبة ال7 عالميًا في 2075    صيادلة المنوفية تُكرم أبنائها من حفظة القرآن الكريم    بعد واقعة الشيخ التيجاني.. تعرف على أبرز الطرق الصوفية في مصر    نشأت الديهي: الدولة لا تخفي شيئًا عن المواطن بشأن الوضع في أسوان    عيار 21 الآن واسعار الذهب اليوم في السعودية الأحد 22 سبتمبر 2024    الموزب 22 جنيهًا.. سعر الفاكهة بالأسواق اليوم الأحد 22 سبتمبر 2024    عاجل.. بدء حجز وحدات سكنية بمشروع «صبا» للإسكان فوق المتوسط بمدينة 6 أكتوبر    وزير الخارجية يلتقي مع كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشئون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة    متحدث الجيش الإسرائيلي: عشرات الطائرات الإسرائيلية تشن غارات واسعة في لبنان    الأردن لمواطنيه في لبنان: غادروا البلاد فورا    وزير الخارجية: نرفض أي إجراءات أحادية تضر بحصة مصر المائية    ملف يلا كورة.. تأهل الأهلي وبيراميدز.. احتفالية الدوري.. واعتزال أحمد فتحي    يورتشيتش: سعيد بالريمونتادا أمام الجيش الرواندي رغم صعوبة المباراة    أحمد شكري: كفة الأهلي أرجح من الزمالك في السوبر الإفريقي    أحمد بلال: الأهلي سيحسم السوبر الإفريقي..والزمالك لا يحتاج السفر للسعودية بمستواه الحالي    وزير الشباب والرياضة يشيد بحرص القيادة السياسية على تطوير المنظومة الرياضية    وليد صلاح عبد اللطيف: مباراة السوبر الإفريقي ستحدد مصير جوميز مع الزمالك    ريمس يفرض التعادل على باريس سان جيرمان في الدوري الفرنسي    خالد جلال: الأهلي يتفوق بدنيًا على الزمالك والقمة لا تحكمها الحسابات    3 سيارات إطفاء للسيطرة على حريق عقار في كفر طهرمس    مش كوليرا.. محافظ أسوان يكشف حقيقة الإصابات الموجودة بالمحافظة    لقاء مع صديق قديم يوقظ مشاعر رومانسية.. تعرف على حظ برج القوس اليوم 22 سبتمبر 2024    «كان أملي الوحيد في الكون».. انهيار الفنان إسماعيل الليثي في جنازة ابنه (صور)    مختارات من أشهر المؤلفات الموسيقى العالمية في حفل لتنمية المواهب بالمسرح الصغير بالأوبرا    بسمة وهبة تكشف عن سرقة "عُقد وساعات ثمينة" من الفنان أحمد سعد بعد حفل زفاف نجلها    نقل الفنانة آثار الحكيم إلى إحدى المستشفيات بعد تعرضها لوعكة صحية    محمد حماقي يتألق في حفل بالعبور ويقدم «ليلي طال» بمشاركة عزيز الشافعي    «موجود في كل بيت».. علاج سحري لعلاج الإمساك في دقائق    باريس سان جيرمان يسقط في التعادل الأول أمام ريمس بالدوري الفرنسي    رئيس شعبة بيض المائدة: بيان حماية المنافسة متسرع.. ولم يتم إحالة أحد للنيابة    أخبار × 24 ساعة.. طرح لحوم مجمدة ب195 جنيها للكيلو بالمجمعات الاستهلاكية    شاهد عيان يكشف تفاصيل صادمة عن سقوط ابن المطرب إسماعيل الليثي من الطابق العاشر    جثة أمام دار أيتام بمنشأة القناطر    اندلاع حريق بمحال تجاري أسفل عقار ببولاق الدكرور    خبير يكشف عن فكرة عمل توربينات سد النهضة وتأثير توقفها على المياه القادمة لمصر    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الأحد 22 سبتمبر 2024    الصين وتركيا تبحثان سبل تعزيز العلاقات    محافظ الإسماعيلية يناقش تطوير الطرق بالقنطرة غرب وفايد    أحمد موسى يوجه رسالة إلى حزب الله: «يا سيدي اضرب من أي حتة» (فيديو)    حزب الله يعلن استهداف مواقع إسرائيلية بصواريخ الكاتيوشا    "الصحة العالمية": نقص 70% من المستلزمات الطبية للمنشآت الصحية في غزة    احذر تناولها على الريق.. أطعمة تسبب مشكلات صحية في المعدة والقولون    نشرة التوك شو| انفراجة في أزمة نقص الأدوية.. وحقيقة تأجيل الدراسة بأسوان    خبير لإكسترا نيوز: الدولة اتخذت إجراءات كثيرة لجعل الصعيد جاذبا للاستثمار    قبل ساعات من ظهورها.. تعرف علي موعد الإعلان عن نتيجة تنسيق الكليات الأزهرية 2024    د.حماد عبدالله يكتب: "مال اليتامى" فى مصر !!    5 أعمال تنتظرها حنان مطاوع.. تعرف عليهم    قناة «أغاني قرآنية».. عميد «أصول الدين» السابق يكشف حكم سماع القرآن مصحوبًا بالموسيقى    التحريات تكشف ملابسات مصرع ابن المطرب إسماعيل الليثي في الجيزة: سقط من الطابق العاشر    المحطات النووية تدعو أوائل كليات الهندسة لندوة تعريفية عن مشروع الضبعة النووي    هل تشهد مصر سيول خلال فصل الخريف؟.. خبير مناخ يوضح    الحكومة تكشف مفاجأة عن قيمة تصدير الأدوية وموعد انتهاء أزمة النقص (فيديو)    الوفد يبدأ تلقي طلبات الترشح لرئاسة هيئاته البرلمانية    فتح باب التقديم بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الدينى    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص
نشر في أخبار الأدب يوم 24 - 07 - 2010


الدم
أخذت المائة جنيه من زكريا، وذهبت الي محل الفراخ، اشتريت نصف فرخة مشوية، مع السلاطات، وكيلو يوسفي من محل الفكهاني المجاور، وذهبت الي كشك »سيد زرافة«، سيد كان شبعان، فأكلت نصف الفرخة وحدي، وأكل هو بعضا من اليوسفي، وكلما أنهي واحدة من ثماره قال: أنت محتاج غذاء كل أنت، ثم يتناول واحدة جديدة ويقشرها ويأكلها في ثوان.
وتوقفت عربة أمام الكشك، نزلت منها سيدة شقراء، اشتريت من سيد بخمسين جنيها شوكولاته، وعادت إلي سيارتها وانطلقت، وقلت:
- دائخ يا سيد.
وقال سيد انني لابد أن أرتاح لفترة، وقال إن زكريا ربنا فتح عليه من وسع، كان معصمي يؤلمني، و كان زكريا يتحدث طوال الأيام الأخيرة عن سبوبة كبيرة، تساوي التبرع بدمي مقابل المائة جنيه كل مرة لمدة عشرات السنين، وقال سيد:
- لو أن واحدة عليها الدورة الشهرية، هل يمكن تبيع؟..
وقشرت ثمرة يوسفي، وقلت:
- ننتظر مجيء زكريا ونسأله.
فهمت أن واحدة من زبائن زكريا جاءته مثلا اليوم، وكانت تحتاج إلي نقود، وسألت عن زكريا، ويبدو أنها كانت عليها الدورة الشهرية، وقال سيد:
- كوثر رفضوا أخذ دم منها.
زكريا قال لي، لماذا، سألت أنا، وحكي زكريا أن السبب هذا الوشم الذي علي صدرها، الذي دقته ادارة السجن علي صدرها لما حكم عليها بالسجن في قضية الآداب، سرح تفكيري بعيدا، وقلت انني لن أضع وشما أبدا علي ذراعي مثلما كنت أخطط، كنت أريد أن أدق وشما علي ذراعي، أقول فيه مثلا »إن الله مع الصابرين«، أو »حياتي عذاب«، أو ربما مجرد فقط أول حرف من اسمي، كان عدد الأنفار الذين يعملون لحساب زكريا يكبر يوما بعد يوم، وكنت عرفت أن كوثر أجبرها أمناء الشرطة في الحي علي العمل مرشدة لهم.
وقال سيد انه حصل علي ربعين حشيش اليوم من كوثر، وفهمت أنا أنها أكيد حصلت علي ربعين الحشيش من أمين شرطة تعرفه، ويرافقها هذه الأيام، وكانت قد بدأت تمطر، فدخلت الي الكشك، لأحتمي بسقفه، وقلت الحمد لله لأني شبعت جدا بعد العشاء المعتبر، وبدأ سيف يلف سجائر الحشيش، وأمسكت جريدة من الجرائد العديدة، وحاولت قراءة العناوين الكبيرة.
وتذكرت كلام ممرضات المستشفي عن أنني لابد أن أرتاح لفترة، بيعي لدمي كل اسبوع شيء خطير، كما قالت تلك الممرضة التي قال لي عنها زكريا انها مرافقة ابن عمه سائق الميكروباص، وكانت كل عناوين الجرائد عن التنمية، وعن زراعة الصحراء، وحاولت أن أعرف متي ميعاد مباراة المنتخب بعد غد، وقال سيد وهو ممسك بورقة البفرة:
- يعني نصف لتر الدم سيظل بمائة جنيه؟
وقلت:
- آه، لو تتم السبوبة التي كلمني عنها زكريا، مجرد فص، فص من الكبد.
وقال سيد انني يمكنني أن أمتلك كشكا مثل كشكه هذا لو بعت الفص، لكن طبعا في مكان آخر، كي لا أقطع عليه، وحلفت لسيد بحياة العيش والملح، أن الكشك سيكون طبعا بعيدا عنه، وكنت أكح وصدره ضيق، وفكرت أن كحتي خطيرة، وتذكرت أنني لما خرجت من الغرفة التي أعيش فيها، نسيت القلة خارج الغرفة فوق السطوح، لو رأتها جارتي ربما تأخذها، فهي بنت حرام، وناولت سيد فص يوسفي، وفكرت في كلام زكريا أنه يريد أنفارا جديدة، وأنه تعرف علي المزيد من الممرضات يعملن في مستشفيات خاصة كثيرة، وأن السوق عطشان للدم، وأن الرجل الجدع هو القادر علي التبرع كل اسبوع مرة، وكنت أضع لسيد فص اليوسفي في فمه وهو يلف سيجارة الحشيش، وأضع في فمي فصا.
استغماية
طرت أنا وظلوا هم طوال المساء حتي ساعة متأخرة من الليل يبحثون عني، فوق أسطح البيوت، في مداخل الشوارع المحيطة بمنزلنا، خلف الأشجار، وخلف الأعمدة تلك التي تحمل كبائن التليفونات العمومية، كنت أفعلها فيهم كل مساء تقريبا، أطير لأختفي، تارة أذهب الي غرفة نومي ببيتنا، ادفس نفسي في الفراش، ومعي عدد من مغامرات »المغامرون الخمسة«، وأظل أقرؤه، وهم يبحثون عني في كل مكان، وتصلني أصواتهم العالية وأنا مندفس في فراشي، أضحك علي هذا الهطل الذين هم خائضون فيه.
أحيانا كنت أجلس أمام التليفزيون كي أشاهد مسلسل الساعة الثامنة، وبعدما ينتهي أتذكر فجأة أنني كنت طاير!، وأنه علي العودة، كي ألمس ذلك العامود الخرساني الذي جعلناه علي ناصية الشارع نقطة الملتقي، نقطة الانطلاق ونقطة العودة، مع الوقت والسنين، كنت أطير أنا والبنت عبير، ونختفي تحت سلم بيتنا، في ذلك التجويف المدهش الذي اكتشفناه معا، وكانت عبير صممت علي اللعب معنا، وكانت أمها تنهرها لأنها تعلب مع الصبيان مثل »الدكر«.
وقلت لعبير تحت السلم:
- لو أردت اللعب معنا دعيني ألمس صدرك النابت الناشيء المفاجيء لنا تماما.
وقالت عبير انني قليل الأدب، لكنها بعد الحاحي وضعفها أمام رغبتها في اللعب معنا رضخت لطلبي، فكنت أطير معها، مرة نختفي تحت السلم، ومرة نصعد فوق السطوح، ومرة نروح شقتهم عندما تذهب أمها الي بيت جدتها.
ولما عرفت عبير انني أحوش مصروفي وأشتري المغامرون الخمسة طلبت مني نسخا، وكانت فرصة سنحت لي أن أساومها مرة ثانية، وتتركني أتحسسها بحرية من تحت ملابسها، وكانت أمي تحذرني من أم عبير، وتقول كلمات لا أفهمها عن أن والد عبير في السعودية، وأن أمها كل يوم خارج البيت، كانت هناك العديد من الأشياء الجافة في طفولتي، والقليل من الأشياء الطرية، الندية، وكانت أطري الأشياء عبير، والشعر الحرير، وكنت أغنيها لعبير، ونحن في عشة الفراخ، وكانت هي تقول:
- »تعرف تقيس الفرخة وتشوف عليها البيض ولا لأ؟«.
وعلمتني عبير كيف أقيس الفرخة، وكيف أعرف ما ان كانت عليها البيضة أم لا، ومن المؤكد أن تلك الخبرة أفادتني كثيرا فيما بعد، عندما قابلت لاحقا الكثير من الدجاج في طرقات الحياة وعششها المختلفة، فكنت من أول نظرة أبصها علي الدجاجة، أعرف ما تخبيء في تجويفها، أو هكذا علي الأقل كنت أظن، كانت عبير فرحة رغم ذلك أن عشة فراخ أمي بها عدة ديوك، وكانت تحب ذلك الديك الكبير كهرماني الريش، وكنت أسميه أنا »ديك البلد« فكلما هاجني الشوق إلي اللعب مع عبير أقول لها:
- تعالي نطلع فوق نشوف ديك البلد.
فوق السطوح شفنا معا ديك البلد، وبعدها بسنوات، عندما غبت عن عبير، شفت ديك البلد وحدي مرات عديدة، في أقسام شرطة كنت أدخلها، في مكاتب مكيفة يجلس خلفها بشر لهم بشرة برتقالية كهرمانية، في علاقات بشرية و خصومات كانت تتصارع بين مجموعات انسانية تذكرني كثيرا بديوك كانت في عشة الفراخ التي كنا نطير اليها في الزمان البعيد الأخضر.
يبدو أن عبير كبرت اليوم وتزوجت واحدا من هؤلاء العيال الذين كنا نلعب معهم في الطفولة، يبدو أنها اليوم أما تملك مؤخرة كبيرة وبعض الحكايات البلهاء، ويبدو من المؤكد أنها حتي اللحظة تحكي لزوجها عن أنه أول من لمسها، من الوارد أن تكون عملت سكرتيرة في شركة كبيرة، يزنقها في مطبخها مديرها في العمل مقابل ألف جنيه في الشهر، أو ربما سكرتيرة رئيس تحرير جريدة متصاب، يظن أنه وحده من يعرف كل الحقائق، يبدو أنها نسيت أيامنا الحلوة، وربما رغم ذلك تتذكر أننا يوما ما طرنا معا، وشاهدنا ديك البلد سويا، وتعاهدنا علي ألا يخدعنا أحد، وألا نفقد في الطريق كل تلك الفرص التي تفننا في تضييعها.
ثمة من يظن أنني بالغت في طيراني، حتي أنني نسيت أنني مرتبط بأشياء كثيرة كان علي أن أفعلها، مثلا الزواج مثلا، وتكوين أسرة ، وادخار بعض عشرات ألوف في البنك، وثمة من يظن أن لعبة الاستغماية قد استهوتني حتي النهاية، أو أنني مثل قد نسيت مكان ذلك العامود الخرساني، الذي كان يشبه لا شيء سوي مجرد نقطة ارتداد، مثل فوهة عميقة نود أن ندخلها في عز البرد كي نحصل علي دفء ما، مثل منصب نتجبر به علي آخرين، مثل علاقة جنسية نقيمها مع رئيس في عمل من أجل حظية ما، مثل سرير واحد متسع لأحلامنا أو أوهامنا علي حد سواء، مثل ملابس جديدة وحضن أمان لطفل شوارع، مثل فرصة لسجين عتيق خرج لتوه من سجن طويل يبحث عن فرصة تحت الشمس.
يبدو أن عبير لم تكن رغم ذلك محبة لفكرة الطيران والتحليق، فثمة فارق بين أن تطير مثل يمامة، وأن تطير مثل ورقة شجر، كل هذه الصورة مرت في خيالي، وأنا شارد في صحراء صمت مطبق تناوشني، وأنا أشاهد هؤلاء الصبية الصغار يلعبون في الشارع، لو كانت عبير معي لحظتئذ، لربما حاولت أن تقنعني أن العيب مني أنا، وسوف أغمغم أنا كعادتي بكلمات غير مفهومة، وسوف أحكي لها ولابد تفاصيل كنت لا أرغب في حكايتها، وربما تصاعدت حدة الحوار، وقلت لها في النهاية:
- اننا جميعا نمارس لعبة الاستغماية، من البداية حتي النهاية.
وربما حكيت لها عن فيلم أمريكي أيضا اسمه، أن تكون جون مالكوفيتش، وسوف أقول لها إن أذكي البشر ربما يكونون هم محركو العرائس، وسوف تسخر هي مني، وتنطلق الي محل الكوافير، الذي ربما تقيم مع صاحبه أيضا علاقة من خلف ظهر زوجها، وربما تحكي له عن تعاستها لأن زوجها المقيم في الخليج لا يعاشرها معاشرة الأزواج سوي مرات قليلة جدا كل عام، ويقول هو لها ان ملايين النساء في بلادنا يعشن هكذا، ثم انني أشعلت سيجارة، ودخلت بين الناس، وكل احساسي وشعوري، انني مازلت طائرا
صفقة
كان الغضب قد بلغ به مداه، وجد نفسه يبصق في وجهها، وبصقت هي بدورها في وجهه، صفعها، فصفعته، ركلها ثم ركلته، وراحا في هياج يشتعلان، تلك نوبة جديدة من نوبات جنونهما معا، سوف يمزق عنها ملابسها، ويمددها فوق تلك الأريكة في ردهة البيت، ويدخل فيها حتي تنكسر شوكتها، وفي ضياعه الموحش سوف يتذكر كل صنوف الغربة، ويسمع كل كمنجات العذاب، وتنهشه هي مثل لبؤة شرسة، فقدت في صحراء الحياة طفلها الوحيد اليتيم، يقشرها مثل حبة فول سوداني، ويقضم غربتها وحزنها وتعاستها ويذوب تعاسته في تعاستها.
كان قد التقي بها صدفة قبل عام واحد، كانت هي النجمة الشهيرة في عالم الضوء، وكان هو المغمور التعيس البائس، كذلك عليها في البداية كيفما تعود أن يكذب علي جميع النساء، بداخله يعلم جيدا مثل معظم الرجال أن موهبة المرأة الحقيقية في الفراش.
عندما التقيا أول مرة، طلبت منه أن يحكي لها حكاية، يكتب لها قصة من مائة سطر، عن عالم خرافي مجهول، حكي لها فيها عن مجموعة من البشر، يعلمون مسبقا أنهم سوف يموتون فيحزمون أمتعتهم، ويذهبون الي شاطيء البحر ينتظرون طائر الموت الخرافي الملامح، كانت تقرأ هي قصته، وتضحك، وحار وقتها في فهم ما خلف ضحكتها من إيحاءات، عندما صحا من النوم في ذلك الصباح البعيد، كانت هي بجواره عارية من كل شيء حتي عزلتها، وكانت قد اختلفت حياته، أخذته الي عالم كان غريبا عنه، جلس معها الي موائد الكبار واستمع الي الكثير من قصص النميمة التي ولابد أنه اتخذها فيما بعد مادة لقصصه ورواياته.
لم يحك لها في البداية الكثير عن جنونه وشطحاته، ونظرته العدمية الي الحياة برمتها، كانت الصفقة من البداية أن تستحوذ هي عليه، وأن يرضي هو بالفتات منها، عند سور شهوتها، كان يلقي أمتعة الرحيل المضني، ويقول خبئيني داخلك، تعشق هي الضوء، ويعشق هو العذاب، لم ينكر أنه أحب أشياء فيها، يحب تلك الطفلة بداخلها رغم كل تلك المساحيق التي تحاول أن تخفي الطفلة بها، لفت نظرها فيه من البداية غموضه، وكان يقول لها انني لا شيء سوي مجرد رقم من الأرقام، مجرد عابر طريق، ربما تدهسه عربة طائشة في الصباح، ويغطون جثته بتلك الجريدة التي تكتبين فيها ولا يقرؤها أحد، وهو يقبض علي نهدها الجائع يبص في عيونها بغل وضعف وتشفي وخذلان، يلمح في عيونها تلك النظرة الشبقية التعيسة الحائرة المتعبة.
لاشك أنها مثله عاشت سنوات تحلم بيقين ما، لاشك أنها جاعت كثيرا وحلمت كثيرا وعرفت أصنافا من الرجال تناوبوا علي سرقة براءتها، ولاشك أنه يعرف أنه أيضا ولابد أن يسرق منها نصيبه من الصفقة المستمرة الأبدية، لم يكن يشعر رغم ذلك لأن القسمة ضيزي، يعرف أنها سارت في حياتها طوال المشوار منهكة، ويعرف أنها تقع تحت سلطة تلك القوة الجبارة التي تدفعنا الي فعل أشياء وددنا لو لم نفعلها منذ البداية، عندما يتعريان في العتمة، تتفلق حبات الحزن، وتجيء من مدنها الداخلية كل أشجار الشجن.
يسأل نفسه كل صباح نفس السؤال القاتل، ما إن كان فعلا يحب تلك المرأة، في مبني الجريدة، يجلس هناك، مثل غريب، الصفقة تقتضي أن يكونا خارج البيت غريبين، علاقة محايدة، لها عالمها وله عالمه، حتي لقب زوج الست لم يفز به، كانت سرية العلاقة هي أغمض ما في المشوار كله، سرية تشبه تماما تلك السرية التي يحكمنا بها ديكتاتور سيكوباتي، أو تلك السرية التي تجعلنا لا ندرك أي نطفة من نطفنا تحديدا قابلت تلك البويضة في رحم امرأة كي تنجب طفلا لا نعرف أبدا ما ان كان سيموت بطريقة مشابهة لموتنا أم لا.
في لحظات هياجه مرة، كان يصرخ بها، من تظنين نفسك، فرانسواز ساجان؟!، آه،.. ربما أنت ساجان تعيسة مثلها تقتلين نفسك بمخدرات لعينة، من تظنين نفسك؟!، فيرجينيا وولف، ان جنون وولف حتي صاحبه قدر كبير من البهاء والرومانتيكية، آه، ربما تظنين نفسك أليس ووكر مثلا!،و هي تعايره، أنها اشترت له ما يلبسه من ملابس، ويصفعها هو، فتحتضن كفه، تضعها فوق نهديها، تتأوه مثل قطة ستموت بعد دقائق قليلة، ترجوه أن فقط يضمها اليه، يصفعها مرة ثانية، وهو يعرف انه يفعل ذلك لأنها فعلا صادقة، ولأنها فعلا اشترت له ما ارتداه، مرات ومرات، لكن ساعتها كانت اللعبة مختلفة، كانت تتحدث عن أنهما واحد، وأنهما لابد أن يقتسما متع الحياة معا، يصفعها لأنه لن يستطيع أن يصفع رئيسه القميء في الجريدة، ولأنه لا يستطيع أن يخرج الآن في منتصف الليل ليقابل غريبا ليصفعه، تجلس بين يديه، وتصرخ به وترجوه أن يهدأ، وينفجران معا في البكاء، بينما يغرس وجهه بين نهديها، تصرح هي له بمدي تعاستها، في لمعة جسديهما تحت الضوء الحزين، يختلط عرق جسديهما بالدمع، كم أنا تعيس يقول لها، كم أنا تعيسة تقول له، يجمعان التعاسة في زجاجة واحدة ويحتسيانها في الصباح، فوق الوجه ترسم هي صورة المرأة الشرسة، التي يهابها الجميع، ويرسم هو فوق وجهه صورة الفتي المدهش الضاحك الساخر.
الأذكياء لن يجدوا صعوبة في التعرف علي مدي حزنهما معا، يقول هو لها أن كل الأنهار تصب في البحر في النهاية، يقف في احدي الندوات ويصرخ أن كل شيء خطأ، وأننا جميعا عبيد، ويبص إليها من فوق المنصة، ويشعر أنه يريد أن يقول انه نفسه عبد لهذه المرأة، يعرف أنها بدورها عبدة لرئيس تحريرها، وأن رئيس التحرير بدوره عبد لرئيس مجلس الادارة.
يخرج من البيت الي البار، يجالس امرأة أخري، تحكي له المرأة الأخري عن تعاستها، تحت تأثير الخمر يسبها ويسب الحزن والبار والمجتمع والحراك السياسي، ومشروع توشكي، والعلمانية، والليبرالية، والوجودية، والدولة العثمانية، والانترنت والنقابات المهنية، والجامعات، وكامب ديفيد، والاخوان المسلمين، والشعراء، والجاهلين، والمتعلمين، والفنيين والتكنوقراط، والحرية، والسادية، والماسوشية، وسكان المدن، والريف، والعشوائيات وكل السياسات والخطط الخمسية، والمجلات الفنية، ومباريات الكرة، والشوارع، والشجر، والليل، والنهار، يعود اليها في المساء، مثل كلب جريح لا يطال جرحه كي يلعقه، يقول لها منكسر الصوت، أنا رجل شرقي!، تأخذه بين ذراعيها وتهمس، سلامتك حبيبي، لأول مرة يشعر أنها حنون، ويشعر أنها فعلا تفيق من أوهامها، وأن حنان المرأة في النهاية هو الغالب.
دوما تشك فيه، فارق السن بينهما جعلها مجنونة تماما، لا سعادة لرجل تزوج امرأة أكبر منه، هناك دوما ذلك القلق المضني المنهك، سوف تجلس كل يوم تنتظر مجيء ذلك اليوم الذي يخرج فيه ولا يعود أبدا، لكنها تلك الليلة قالت له انها لم تعد تريد شيئا، هي تريده هو فقط، تقسم له أن أهم هدف لها في حياتها اليوم ألا تذهب للفراش وحيدة، تصرخ له:
- إن كل البهرجة والضوء في الخارج لم تعد تعني لي شيئا، ما هي ثروتي حين أذهب الي فراشي كل يوم وحيدة تعيسة وخائبة.
هو يعرف جيدا مدي تعاستها، يكره أنه يعرف، ويحاول وهو يأكل معها وجبة الغذاء ألا يطيل النظر اليها، وهي تمضغ طعامها بصعوبة، يعرف جيدا انها مثله اعتادت لسنوات أن تأكل وحيدة، ان من تعودوا علي تناولهم طعامهم لوحدهم لا يشبهون الآخرين، يتذكر كيف قضي معظم سنوات عمره يتناول طعامه وحيدا، في المطاعم والشوارع وأماكن العمل وفوق أرصفة وفي محطات رحيل، ربما لهذا السبب ظل طيلة عمره يشعر بالجوع الأبدي الصارم، ربما لهذا السبب يكره أن يتناول طعامه في حضرة آخرين، انه يأكل ويسرح، ويفكر في قصص عجيبة، وتحضره ذكريات متعددة معظمها مؤلم، ويحكي لها وتحكي له، ويداعب خصلات شعرها، ويهمس لها أنه يحبها، ويشعر في منتصف المسافة بينه وبينها أنه يكذب من جديد، انه يريد أن يقول لها انه يحبها، لكنه يكره بؤسها، بل بالأحري يكره بؤسهما معا، ويريد أن يشرح لها أن المشكلة الحقيقية اننا نأتي الي هذه الحياة اللعينة ولا نختار شيئا.
وكانت هي تترك يده تقطف دمعتها، وهي لم تعد تتحرج من أن يري دموعها، عندما تعود الي جدران المنزل، ويزحفان الي سرير واحد بيد كل منهما كتاب، ولا شيء بينهما سوي الصمت، ومشاعر يعرفها جيدا، لماذا أنا هنا؟ يعرف أنه لو تركها ربما لقتلها ذلك، يعرف جيدا أنها تعتبره ملكية خاصة، وتحديا دونه الموت، ويسأل نفسه أين يروح وأين يذهب، وهو شريكها في البؤس، ومعها اقتسم خبز الشقاء طوال عام، ندم أنه تركها تريه جراحها كلها، ومن المؤكد أنه ندم أكثر لأنها شافت كل جراحه، وكان بينهما كل مساء تسير جبال من الوحشة، لا يهزمها ضوء.
وجلسا يشاهدان اليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون في فيلم، من يخاف فيرجيينا وولف، وكانت بينهما نفس المساحة من الصمت، نفس الصمت الذي لا يقطعه سوي عندما يهمس لها كلمة ماما وهو يضاجعها، وكانت تقول له ان تلك الكلمة هي ما تسير بها الي الأورجازم الحقيقي وقمته، وكان هو يتعجب انه يشعر بذات الشعور، كل توجهاتها طبقية، وهو نفس الماركسي القح، الذي مازال يعيش أوهامه العبيطة أنه سوف يجيء يوم يتحقق فيه عدل وعدالة، وينفر من صاحباتها الهوانم ويصفهن بأنهن حفيدات الشماشرجية من مسحوا أحذية فاروق، وهي تنام بين ذراعيه وتداعبه قائلة، برغم كل الاختلاف العقائدي ما بيننا، لكني أحب فيك كل بجاحتك الشعبية، ويهب هو واقفا يريد أن يعبر في حركات مسرحية عن أنه لا يفهم كيف يكون الانسان متحضرا بغير أن يكون ماركسيا، وتضمه هي اليها، وتقول له، تعرف ان اختلافنا هو كمالنا معا، لولا هذا ما اكتملنا، وتنهمر دموعها وهي تقول له، أرجوك لاتتركني أموت، لا أريد أن أموت وحيدة في سرير بارد تعيس، وكل ذلك يعذبه، فمنذ البداية هو قد حدد فترة مؤقتة في ضميره للعلاقة، قال عاما أو عامين، لا بأس، وسوف أهرب منها، لكنه الآن متورط في حزنها، كما هي متورطة معه بكل وحدتها وانهزامها.
يعرف أن كل القصص لا تكتمل في الحياة اللعينة، وأنه ما من قصة تطول حتي يكسرها حادث يجيء من مدن تشبه هذه المدينة الخرافية الهائلة الميتة، التي تحت كباريها ينام أطفال غرباء تعساء لا تقل هي ولا هو تعاسة عنهم، وراح يصفعها وتصفعه، وفي السرير تصالحا علي العالم الغريب التعيس كله بمقدار تعاستهما معا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.