في ليلة هادئة افتقدنا فيها المشاعر الحالمة كعادة هذا الزمان، رحل الشاعر العربي اللبناني جورج جرداق، بعدما أمتعتنا ليلته عمراً من الأشواق والذكريات. رحل في صمت لكنه ليس صامتاً، بعدما أحسستُ أن الموت يرفرف حوله، حين لم يقو علي تسلم آخر تكريم له في أكتوبر الماضي، الذي منتحته إياه مؤسسة البابطين للإبداع الشعري وجائزتها التكريمية في دورة أبي تمام الطائي، فأناب الناقد الدكتور ياسين الأيوبي لستاعها في مدينة مراكش المغربية حيث تُعقد فعاليات الدورة. لم ألتقِ به مُطلقاً، وإن كنتُ انتويت أثناء زياراتي لسوريا منذ سنوات أن أراه في لبنان لكن ظروفي لم تسمح وقتها لفجيعتي في موت الشاعر الكبير ممدوح عدوان. غير أني تابعت إنتاجه الشعري والنثري والبحثي المتنوع علي مدار سنوات، مُقارناً بينه كشاعر عاشق أخذنا جبراً بإرادتنا في ليلة ساحرة، وبينه ككاتب مسرحي وروائي قاص وحكاياه، وهذا الكاتب في مقالاته الثرية، ثم هذا الباحث الدقيق في تأليفه موسوعة كبري عن الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بعنوان "عليّ صوت العدالة الإنسانية"، مُتحدثاً في أجزائها الخمسة عن "عليّ وحقوق الإنسان" و"بين عليّ والثورة الفرنسية" و"عليّ وسقراط" و"عليّ وعصره" و"عليّ والقومية العربية" و "روائع نهج البلاغة". كان نموذجاً صالحاً ضد التعصب الديني في زمن عربي يموج بالطائفية التي تلهينا عن دُنيانا وآخرتنا معاً، فهو النصراني الديانة سخَّر سنوات من عمره في إنجاز هذه الموسوعة الضخمة، مُعلِّلاً في أحد حواراته الصحفية كتابته عن الإمام عليَّ، بأنه كان نموذجاً وهو يؤسس في دولته إلي العدالة وأستاذ عصره وجيله والأجيال التي تعاقبت بعده في الحكمة والفلسفة، وأنه عقر قلمه في أن يكتب عن شخص غيره، قائلاً إن ما حدث بينه وبين شخصية الإمام عليّ يجب ألا يكون ما هو معتمد علي عرقية أو فئوية أو حزبية أو أيديولوجية ضيقة، وأن العدالة المتوافرة في عليّ من عادات عربية أصيلة كحب الخير والمساعدة والنخوة والكرم والبطولة والعدل والثقافة والأدب والعلم والدين. بدأت أنوار ظهوره حينما أتم في عام 1950 وهو في السابعة عشرة من عمره كتاباً عن المؤلِّف الموسيقي والمسرحي الألماني ريتشارد فاجنر بعنوان "فاجنر والمرأة"، ليُقرر الدكتور طه حسين بعدها إدراجه ضمن لائحة الكتب التي يجب علي طلاب الدكتوراة في الأدب قراءتها بإمعان، ويُترجم إلي اللغة الألمانية. لينتهي بعدها بسنوات من دراسته في الكلية البطريركية، ويتنقَّل ما بين تدريس الأدب العربي والفلسفة والكتابة الصحفية، حتي إنه كان يقوم وحده في خمسينيات القرن الماضي بكتابة أعداد مجلة "الحرية" اللبنانية كاملة من الغلاف إلي الغلاف، فيُحرر مقالاتها ويوقعها بأسماء مُستعارة! لكن شهرته الحقيقية بدأت في عام 1968 عندما أمتعنا الصوت الكلثوميِّ في لحن وهَّابيٍّ رائع بقصيدته "هذه ليلتي"، فذاع صيته من المحيط إلي الخليج، وسهر معنا عمراً فسيحاً الشوق في العيون الجميلة والمساء الذي تهادي إلينا ثم أصغي لسؤال عن الهوي، صدفة أهدتنا الوجود، وحديث في الحب إن لم نقله أوشك الصمت حولنا أن يقوله، مُستحضراً في ليلتنا خيال الندامَي والنواسيّ الذي عانق الخيام ليتساقوا من خواطرنا الأحلام ويُسكروا الأيام، إذ جاء بأبي نواس شاعر الخمر والمجون المولود في القرن الثامن الميلادي والمتوفي في القرن التاسع، كي يُعانق عمر الخيَّام العالِم والشاعر الفارسي المولود في القرن الحادي عشر الميلادي والمتوفي في القرن الثاني عشر! ليملأ قلوبنا وكياننا شوقاً، قبل أن يُبدّل الحب داراً والعصافير تهجر الأوكار، وتلهو بنا الحياة وتسخر. ولجرداق العديد من الدواوين الشعرية التي انتقي منها كبار الفنانين ما يتغنون به من القصائد، أهمها علي الإطلاق قصيدة "نغم ساحر" التي غنَّاها رياض السنباطي ولحَّنها، كما غنَّاها أيضاً وديع الصافي، وقصيدة "أنا لياليك" التي لحنها حليم الرومي وغنَّتها نجاة، وقصيدة "سمراء النيل" التي غنَّتها ماجدة الرومي في تسعينيات القرن الماضي من ألحان إيلي شويري، حاكية لنا عن بنت النيل وزهو الجيل التي نراها في قمر الليل وموج البحرِ وشمس الصحراء، تلك القصيدة التي ما أحوجنا الآن إلي إعادة بثها وقِيَمها وسط طوفان المحطات الفضائية والإذاعية في زمن الإرهاب الدوري والتلوث السمعي :- سمراءُ كليلِ السهرانِ وكطلّة بنت السلطان ضحكتها كالفرح المنصوب شراعاً فوق الخلجانِ كصباحٍ تمرح فيه الشمس كرقصِ الريحِ بفستانِ من فرحة أرض أزلية من رنة عود شرقية لفتتها الخفةُّ.. خطوتها الرقصة لهجتها المصرية أوراق زهور برية.. أجنحة طيور بحرية ليلٌ وحرير وتكية كالأرض حميمة وبهية كالشمس قديمة وصبية أنا لست امرأة عادية أنا مصرية.