هجمت علينا كرة القدم وبعد استراحة ستأتي مسلسلات شهر رمضان من باب الحارة وشباكها.. وستقضي علي شهر اخر من هذا الصيف! وبانتظار عودة العمل لابد من الخوض مع الخائضين في أمور المونديال الذي يكلف بلادنا الملايين دون أن يكون لنا فيه ناقة أو جمل، خاصة بعد النجاحات الكبيرة التي احرزتها اتحادات كرة القدم وغير القدم في اخذ المليارات من الموازنات العامة دون أي وجه حق، ودون أي نجاح يذكر عبر عشرات السنين! ولان الجدية في مثل هذه الاحوال تبدو متعبة فلابد من التعامل مع المونديال علي طريقة المسلسلات السورية الفانتازية التي دشنها ابن الوهاج وغيره ممن دخلوا تاريخنا رغما عنا. تحتل كرة القدم اهتمام العالم بكل فئاته بما فيهم الفلاسفة والمخرجون السينمائيون والفنانيون والتشكيليون، فمعلقو الكتب الفلسفية - مثلا - صاروا يمثلون البلدان بفلاسفتها كأن المانيا بفريق من هيغل وكانت وفيخته وماركس.. والفرنسيون بجان بول سارتر وديكارت وريكور. واليونان بفريق من سقراط وافلاطون وارسطو وأرخميدس.. وفي تعليق رائع نقله المراسل الرياضي الثقافي الدكتور علي محمد سليمان في ملحق الثورة عن مراسلين فلسفيين، وهو صاحب المقالات الاختيارات الجميلة التي انتظرها من الاسبوع إلي الأسبوع. تجري المباراة الفلسفية الرياضية برتابة وبرود من دون أحداث مثيرة سوي كثافة في التفكير والتأمل من قبل اللاعبين، الا انه وفي الدقائق الأخيرة يسجل سقراط هدفا مشكوكا فيه ويثير جدلا بين اللاعبين مع حكم المباراة كونفوشيوس، يعارض هيغل الغاضب قرار كونفوشيوس باحتساب الهدف ويخبره بحدة أن هدف سقراط ما هو الا عارض ثانوي لنظام اخلاقي غير طبيعي!! أما كانت فيجادل الحكم بأن الهدف من الناحية الوجودية لم يتحقق الا في المخيلة عبر نظام الضرورة، وكارل ماركس الذي كان خلال المباراة متواضع الاداء، يقرر في وجه الحكم ان سقراط كان من الناحية الموضوعية خارج الملعب لحظة التسديد!! اما في البلاد العربية التي اعتكفت عن الحياة الفكرية والثقافية وصنفتها ضمن الموبقات التي تلهي عن ذكر الله وعن ذكر الانجازات العظيمة للاحزاب الحاكمة، وانصبت اهتماماتها علي الاعلام والاحزاب السياسية الحاكمة فيمكن تأليف فريق مونديال يلعب جميع لاعبوه من الحزب الحاكم بما فيهم حكام - اللعبة - الذين يتم انتقاؤهم من المخلصين والذين لا يثيرون القلاقل او الشبهات، او تعكير صفو الجمهور الذي تم تكديسه علي جانب واحد من المدرجات لتشجيع الفريق الفائز حتما، اذ انه لا يوجد اي جمهور للفريق المعارض الذي يلعب ضد الفريق المنتصر حتما، فالناس يريدون السترة والحفاظ علي اسرهم ومستقبل ابنائهم ومن الأفضل لهم التصفيق للفريق المنتصر حتماً وعبر عشرات السنين، الفريق الذي تدعمه الاذاعات والتليفزيونات والصحف القومية وتنهال عليه الهدايا والأعطيات بمناسبة وبغير مناسبة، بينما ينزوي الفريق المقابل مهجوراً مذموماً.. لا احد يقدم له حتي عبوة ماء باردة، وتنهال عليه الشعارات المتوعدة وتهم الخيانة والتهديدات، ناهيك عن القلق علي مصيره المحتم في العودة الي المعتقلات مرة جديدة، في حال استطاع احراز اي هدف حتي ولو كانت نتيجة خطأ غير مقصود من قبل اعضاء الفريق الحاكم الذين يصولون ويجولون كالطواويس في ساحة الملعب التي كانت يوما ما خضراء! طبعا سينتصر الفريق الحاكم (01/ صفر) مثل كل مرة وعبر اكثر من نصف قرن وسط التهليلات والكرنفالات الملونة بالفرح. ورغم التغطية الكاملة واللقاءات إلاعلامية المدروسة مع المدربين وأقوال الصحف التي تتنبأ بالنتيجة نفسها التي يحرزها الفريق فان الناس جميعاً انصرفوا عن متابعة المونديالات المحلية بيأس، لمتابعة الأقنية الأخري والفرق الرياضية التي تخوض تنافسات فعلية وليس تنافسات وهمية مع الفرق المقابلة.. فالصراع المبني علي التكافؤ صنع نجوم الرياضة الذين تقدر أسعارهم بالمليارات، نجوم يقدمون عروضا فنية ورياضية رائعة مما حدا بالمخرج العالمي بازوليني بالتصريح بان كرة القدم تأخذ وظيفة ومكانة المسرح القديم! وكذلك الحكومات التي نظمت لشعوبها ولأحزابها مونديالات حقيقية وصادقة استطاعت تجاوز حالات التخلف لتأخذ لها مكانا بين الأمم.. وما الروح المتوثبة لفرق أمريكا الجنوبية وسيطرتها علي المونديال إلا تغيير عن تفاعل بين الشعوب والأحزاب والحكومات، تفاعل فعلي وجدي وغير مشوب بالتلفيق، ولعل البرازيل أهم تعبير عن هذه الروح الجديدة فهي لم تسيطر عبثاً علي المونديالات السابقة إلا لأن بلادها تخوض مونديالات كثيرة وعلي جميع الأصعدة من صناعة وسياسة وثقافة وزراعة، لتدخل نادي الدول العظمي! بينما المونديالات الوهمية التي تديرها الأحزاب الحاكمة والحكومات العربية مع شعوبها أودت إلي موات المنطقة العربية وغيابها عن جميع المونديالات الحقيقية العالمية، مما اجتذب الدول الأخري لاحتلال مكان الحكومات العربية سواء في مسائل التصنيع أو السياحة او الثقافة، وحتي معركة تحرير فلسطين التي تاجرت بها الحكومات العربية طويلا، يتم انتزاعها اليوم منها، وما الدور الذي بدأت تلعبه تركيا مع معركة أسطول الحرية إلا دور من أدوار كثيرة، أكثر جدية وأكثر صدقاً مما كان يجري في بلداننا عبر أكثر من خمسين عاما!