بالصور.. تعليم أسيوط يتابع استعدادات المدارس لاستقبال العام الدراسي الجديد    «الآن عبر الرابط» الاستعلام عن مسابقة التربية والتعليم عبر بوابة الوظائف الحكومية    القوات المسلحة تعاون أجهزة الدولة لتنفيذ المبادرة الرئاسية "بداية جديدة"    حدث في 8 ساعات| مدبولي يحسم الجدل بشأن عودة قطع الكهرباء.. وحقيقة ظهور حالات إعياء بسبب المياه بأسوان    جالانت: الحرب تنطوي على فرص لكنها تحمل مخاطر جسيمة أيضا    "بينهما أون تايم".. القنوات الناقلة لمباراة الزمالك والشرطة الكيني في الكونفدرالية    حالة الطقس غداً الجمعة 20 سبتمبر 2024 ودرجات الحرارة المتوقعة.. «موجة حارة تضرب البلاد»    صحة أسوان تكشف حقيقة تلوث مياه الشرب    "حبيبتي" و"يرقة" و"مادونا".. أفلام تتنافس بمهرجان طرابلس للأفلام في لبنان    مرصد الأزهر يحذر من ظاهرة «التغني بالقرآن» (تفاصيل)    أمين الفتوى: المرأة الناحجة توازن بين عملها والتزامات بيتها.. فيديو    مجدى بدارن يقدم نصائح للأمهات من أجل تغذية سليمة للأطفال فترة الدراسة -(فيديو)    استشهاد وإصابة 7 فلسطينيين جراء اقتحام قوات الاحتلال لجنين بالضفة    تزايد الضغط للدعوة إلى انتخابات مبكرة في أيرلندا عقب ارتفاع شعبية رئيس الوزراء    956 شهادة تراخيص لاستغلال المخلفات    الدكتورة رشا شرف أمينًا عامًا لصندوق تطوير التعليم بجامعة حلوان    "مجلس حقوق الإنسان": المجتمع الدولى لا يبذل جهودا لوقف إطلاق النار فى غزة    جيش الاحتلال: مقتل ضابط وجندى فى استهداف بصاروخ مضاد للدروع على الحدود مع لبنان    مستشفى "حروق أهل مصر" يعزز وعي العاملين بالقطاع الصحي ضمن احتفالية اليوم العالمي لسلامة المرضى    محافظ كفرالشيخ يوجه بالتيسير على المواطنين في إجراءات التصالح على مخلفات البناء    القوات البحرية تنجح في إنقاذ مركب هجرة غير شرعية على متنها 45 فردا    الأزهر للفتوى الإلكترونية يعلن الإدعاء بمعرفة الغيب يؤدى إلى الإلحاد    مهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما يُكرم «هاني رمزي» في دورته السابعة    مركز الأزهر للفتوى: نحذر من نشر الشذوذ الجنسى بالمحتويات الترفيهية للأطفال    رسميا.. موعد صرف معاشات أكتوبر 2024 وطريقة الاستعلام    الاستعانة بصديق مصري وحديث الجميع عن الأهلي.. كونراد يعلن التحدي بتجربة الزمالك    محافظ بني سويف: إزالة 272 حالة بحملات المرحلة الثالثة من الموجة ال23    ميدو عادل وإيهاب فهمي يدعمان أحمد عزمي: صاحب موهبة حقيقية    بينها التمريض.. الحد الأدنى للقبول بالكليات والمعاهد لشهادة معاهد 2024    فيلم عاشق على قمة شباك تذاكر السينما في مصر.. تعرف على إيراداته    ارتفاع حصيلة ضحايا العاصفة بوريس ل 22 قتيلًا وسط وشرق أوروبا    محاكمة القرن.. مانشستر سيتي مهدد بالطرد من جميع مسابقات كرة القدم    الحكومة تستعرض الخطة التشريعية خلال دور الانعقاد المقبل لمجلس النواب    بنك إنجلترا يبقى على الفائدة عند 5 %    "الموت قريب ومش عايزين نوصله لرفعت".. حسين الشحات يعلق على أزمتي فتوح والشيبي    من هن مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم وإِخوته في الرَّضاع وحواضنه؟ الأزهر للفتوى يجيب    برلماني عن ارتفاع أسعار البوتاجاز: الناس هترجع للحطب والنشارة    توقعات برج الحمل غدًا الجمعة 20 سبتمبر 2024.. نصيحة لتجنب المشكلات العاطفية    "بداية جديدة".. تعاون بين 3 وزارات لتوفير حضانات بقرى «حياة كريمة»    "ناجحة على النت وراسبة في ملفات المدرسة".. مأساة "سندس" مع نتيجة الثانوية العامة بسوهاج- فيديو وصور    "بيوصل خمور لأمها وعاشرها مرة برضاها".. مفاجأة في اعترافات مغتصب سودانية بالجيزة    فيديوجراف| نجوم في رحاب «صلاح التيجاني»    مركز الأزهر: اجتزاء الكلمات من سياقها لتحويل معناها افتراء وتدليس    عاجل| حزب الله يعلن ارتفاع عدد قتلى عناصره من تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية ل 25    أبرز تصريحات الشاب خالد ف«بيت السعد»    انتشار متحور كورونا الجديد "إكس إي سي" يثير قلقًا عالميًا    جامعة الأزهر تشارك في المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان»    محافظ المنوفية يضع حجر أساس لمدرستين للتعليم الأساسي والتجريبية للغات بالبتانون    حزب الله يهاجم تمركزا لمدفعية إسرائيلية في بيت هيلل ويحقق إصابات مباشرة    إخماد حريق نتيجة انفجار أسطوانة غاز داخل مصنع فى العياط    محافظ الإسكندرية يتابع المخطط الاستراتيجي لشبكة الطرق    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة ضيفا على موناكو وآرسنال يواجه أتالانتا    «لو مش هتلعبهم خرجهم إعارة».. رسالة خاصة من شوبير ل كولر بسبب ثنائي الأهلي    «الرقابة الصحية»: نجاح 11 منشأة طبية جديدة في الحصول على اعتماد «GAHAR»    ضبط عنصر إجرامى بحوزته أسلحة نارية فى البحيرة    مأساة عروس بحر البقر.. "نورهان" "لبست الكفن ليلة الحنة"    لو عاوز تمشيني أنا موافق.. جلسة حاسمة بين جوميز وصفقة الزمالك الجديدة    دورتموند يكتسح كلوب بروج بثلاثية في دوري الأبطال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



60 عاما من الإبداع والعطاء
ادوار الخراط: الرحلة
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 07 - 2014

منذ أن أصدر ادوار الخراط مجموعته القصصية الأولي "حيطان عالية،وهو مثير للجدل،حيث جاءت القصص محمّلة بطاقات تعبيرية وأدبية وانسانية واجتماعية مختلفة وقوية،وهذا الكاتب الجديد القادم من عدة مركبة ومعقدة، فاجأ الحياة الثقافية والأدبية بتلك المجموعة المدهشة،وسط اجتياح حقيقي للمدرسة الواقعية،وكان يوسف ادريس يقود اتجاه القصة القصيرة،وله دارسون وناقدون ومتحمسون كثيرون، وكذلك الدنيا كلها كانت دانية ليوسف ادريس،القرّاء والكتّاب علي حد سواء،وكان إدريس له علاقات سياسية سمحت له كذلك بالولوج السريع إلي عالم الصحافة والكتابة،وكان يجد التشجيع الأعلي من الدولة،فهو الذي يمثّل مصر في المؤتمرات العربية والدولية، وهو الذي يقع عليه الاختيار عندما يطلب المترجمون نصوصا لنقلها إلي اللغات الأجنبية الأخري،وبالطبع كان يدعم كل ذلك في الأساس موهبة يوسف ادريس الاستثنائية،ومن ناحية أخري كان نجيب محفوظ برصيده الروائي الضخم والمؤثر والفاعل،والذي نقل فيما بعد إلي الشاشة البيضاء،كان كذلك هذا الرصيد مرتبطا بشكل أو بآخر بالبعد الواقعي الشائع في تلك الأيام الخمسينية من القرن الماضي،بالإضافة إلي كل ذلك كانت فكرة الواقعية في ذلك الوقت هي الموازي الثقافي لفكرة الثورة عموما،ومنذ أن وجدت لها منظّرين مثل محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس
وقد وضعا لها كتابا، ظل بمثابة الدستور الثقافي والأدبي لشباب تلك الأيام،وكان هناك كذلك محمد مندور وعلي الراعي وأحمد عباس صالح وغيرهم،واتسع فناء الواقعية ليشمل المسرح المصري،فكتب نعمان عاشور مسرحيتيه المدوّيتين آنذاك: "الناس اللي تحت والناس اللي فوق"،ومعه ألفريد فرج الذي كتب ونشر وأصدر كتابات مسرحية تحت عنوان "صوت مصر"،وهو عبارة عن أربع مسرحيات الفصل الواحد،وصدرت في أعقاب العدوان الثلاثي علي مصر،إذن كان الجو معبأ تماما بفكرة الواقعية،وأي خروج عن السياق كانت الأقلام تهاجمه،ولم تكن فكرة الواقعية وبالا علي الأجيال السابقة فقط،مثل طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد ومحمد عبدالحليم عبدالله وغيرهم،علي اختلاف درجات تأثيرهم وحضورهم،بل كانت فكرة الواقعية حائط صد لبزوغ أي شرخ في هذا الجدار العالي،أقصد جدار الواقعية، لذلك نشأ جيل من الكتاب في تلك الفترة مثل محمد أبوالمعاطي أبوالنجا وسليمان فيّاض وصبري موسي ومن شابههم،أطلق عليه الناقد الراحل سيد حامد النساج "كتّاب الحلقة المفقودة"،أي الذين تاهت معالمهم بين يوسف ادريس القوي والطاغي، وبين جيل الستينيات مثل محمد البساطيويحيي الطاهر عبدالله وغالب هلسا وابراهيم أصلان ومحمد حافظ رجبآنذاكومحمد ابراهيم مبروك،هذا الجيل الذي استطاع أن يحدث شرخا ملحوظا في تلك المنظومة الواقعية القوية،وأعتقد أن أحد الكتّاب المضارين آنذاك وهو الراحل محمود تيمور،وكان رئيسا لتحرير مجلة القصة، أفرد صفحات كثيرة من المجلة للاحتفاء بهذه البذور القصصية الطالعة،ونشر للبساطي وجمال الغيطاني وضياء الشرقاوي وغيرهم،وذلك كان في عام 1965،وبعدها فعل يحيي حقي الدور نفسه مع كتّاب هذا الجيل، وبدأ حائط الواقعية الاشتراكية الجدانوفية يتلقي ضربات قوية في الإبداع والنقد،ولا ننسي هنا مقالات ابراهيم فتحي الحادة في انتقاد الأكليشهات المعلبة للنقد،ووجه نقدا حادا لهذه الواقعية الساذجة الفجة التي بدأت تنتشر علي حساب الفن الحقيقي،وليس معني ذلك أن ابراهيم فتحي كان ضد الواقعية في خطّها الفني الصحيح،ولكنه كان ضد التسخيف والتساهل الذي راحت تضرب فيه بأجنحتها الضارة، وكان كذلك غالي شكري يكتب في هذا الاتجاه، وبالطبع مناوشات وقراءات وتقديمات رفيع المقام يحيي حقي.
طالت المقدمة قليلا،وهذا لكي أدلل علي أن صدور المجموعة القصصية الأولي لادوار الخراط وهي "حيطان عالية"عام 1959،كان مغامرة ثقافية حقيقية،ورغم أن المجموعة مثيرة وجديدة وحادة في توجهها الجديد،أي أن كاتبها لا يتلمس الطريق،ولكنه يقدم مذاقا عميقا وخاصا ولافتا للنظر،إلا أن المجموعة لم تثر ذلك الانتباه،وتجاهلها الكثيرون،ولم يتحدث أو يكتب عن جدّتها ناقدو تلك الفترة،ولكن من كتب عنها جاءت كتابته فاترة أو غامزة،مثل الذي كتبه الناقد فؤاد دوّارة،وهو كان أحد النقاّد الكبار المؤثرين في الحياة الثقافية آنذاك، كتب فؤاد دوّارة بعد صدور المجموعة مباشرة قائلا:"يكتب ادوار الخراط القصة برأس مثقل بنماذج الأدب الغربي ومدارسه،ويعبر عن نفسه في شيء غير قليل من التعقيد والمعاناة،فكأنما تخرج كلماته من سرداب بعيد الأغوار..إنه يحاول أن يصور عالم النفس الداخلي بأحاسيسه الغامضة،وأحلامه المعقدة ،وهو علي حد تعبيره في إحدي قصصه يقوم بعملية تنقيب داخلي ،وهو بهذا الاتجاه يقدم تجربة جديدة علي القصة العربية القصيرة،لا أعرف لها شبيها أو سابقة إلا في أدب بشر فارس،وعلي وجه التخصيص في مجموعة قصصه القصيرةسوء تفاهمبأجوائها الغربية وأسلوبها المستحدث،وهو أسلوب لم يكتب له الحياة،ولم يجد استجابة كافية من جمهور القرّاء والنقاد العرب،وأخشي أن تلقي محاولة ادوار الخراط نفس المصير علي الرغم من أنها تمتاز علي محاولة بشر فارس بميزات عديدة،لعلها تلك التي تنبه إليها الدكتور مندور حينما وصف أسلوب الخراط بأنه أسلوب شعري ،فيه قوة الشعر وتركيزه وتطريز خيوطه في دقة ومهارة)،هكذا قوبلت المجموعة القصصية الأولي لادوار الخراط،وأعتقد أن هذا كان أقصي ما حصل عليه من استقبال نقدي في ظل ماتحدثنا عنه في ذلك الوقت،فالذي يتأمل الآن عوالم المجموعة القصصية،سيلاحظ بالفعل أن الكتابة تخترق الشكل الذي كان سائدا ومحبوبا ومرحبا به في تلك الفترة،هذه الكتابة الواقعية التي انفجرت دون أي ضابط،باستثناء ممثلها الأول والطبيعي والشعبي والرسمي يوسف ادريس الذي كان ينطلق من موهبة جبارة،وكان يملك الجسارة الكاملة لطرح عوالمه في كتابة واقعية فذة،ولكن جماعة المقلدين وكتّاب الكتالوج الذين يسيرون علي خطي سابقة،كانوا قد أفسدوا المفهوم والكتابة والفكرة النبيلة،ورغم ذلك فكان الاتجاه الواقعي هو الأكثر إقناعا وقبولا وشيوعا وجماهيرية، وأي اختراق لهذا النوع يعد نوعا من المروق والخروج،ولا بد من إيجاد شبيه له فشل من قبل،أو علي الأقل لم يحظ برواج، مثل بشر فارس الذي صنفه النقاد علي أنه كاتب رمزي،وهنا يبدو اعوجاج النظر في المقارنة بين فارس والخراط،حيث فارس يكتب كتابة رمزية جدا،وادوار الخراط يكتب كتابة أخري،وأعتقد أن النقاد كانوا مطمئنين للكتابة الواقعية التقليدية التي كانت سائدة في ذلك الوقت،وكانت موائمة للعصر،وهنا نتذكر قصائد صلاح عبدالصبور التي لاقت مصيرا أكثر معاناة من قصص الخراط،فإذا كان ادوار الخراط قد عاني من التجاهل والاستبعاد،فصلاح عبدالصبور واجهته اتهامات بعدم الثورية،وأنه يصدّر الإحباط والحزن رغم أن بلادنا تعيش أفراح السد العالي والفتوحات الثورية العديدة،ولم يلتفت الكثيرون إلي أن صلاح عبدالصبور هو أكثر من أخلص لثورة يوليو وتوجهاتها وقائدها،وهذا ماسنتناوله في سياق آخر،كذلك الذين وجهوا سهام النقد لادوار الخراط،علي أنه مستغرب وشبيه الرمزيين،لم يعرفوا أن ادوار الخراط نفسه هو سليل التيارات اليسارية الماركسية في وجهها التروتسكي،هذا الوجه المحتفي بالفن وضرورته وتطوره والبحث عن طرق جديدة لإبداعه،وكان ادوار الخراط متأثرا إلي حد ّبعيد بمدرسة الفن والحرية،وبالمنتمين إليها مثل أنور كامل وجورج حنين وعبدالقادر وكامل التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان وجويس منصور وألبير قصيري وغيرهم،وكان قد قضي شهرين محبوسا علي ذمة القضايا الشيوعية في أواخر الأربعينيات،عندما كان شابا يافعا في صفوف اليسار المصري،وهو دوما ما يحنّ إلي تلك المرحلة،وقد سجّل هذه التجربة في أكثر من نص روائي فيما بعد،وأشهر هذه النصوص روايته:"طريق النسر"،التي استحضر فيها بذاكرة إبداعية نشطة ومثيرة كافة عوالم الأربعينيات السياسية والاجتماعية،واستدعي جوّ التنظيمات السرية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت،وقد نشر ادوار رسائل حقيقية في هذه الرواية،كما فعل في نصوص أخري،إذن ادوار الخراط منذ مجموعته الأولي لم يكن بعيدا عن الواقع،ولم يكن شبيها بالرمزيين،ولم يكن منسحقا امام الثقافة الغربية،وربما كان وفي تطوراته اللاحقة قارئا نهما للثقافة الغربية،خاصة الفرنسية،وبالأخص الكاتب مارسيل بروست،صاحب رواية"البحث عن الزمن المفقود"،والتي قرأها ادوار في سنّ مبكرة وتأثر بها بالفعل،لكن ادوار كان قادرا علي خلق شخصياته ولغته وعوالمه المفرطة في الواقعية،بعيدا عما تأثر به،أي أنه لم يكتب نقلا،بل كتب إبداعا،فمن يقرأ في هذه المجموعة مثل "الشيخ عيسي وحيطان عالية وأبونا توما ومغامرة غرامية وغيرها من القصص"، سيدرك أن الكاتب ينهل من واقعه المتعدد في الجغرافيا والتاريخ والمعتقد،بمعني أن هذا الكاتب يحمل إرثا صعيديا سكندريا قاهريا، ونجد أن اللغة متأثرة بهذه الجغرافيات المتعددة،كذلك فالتاريخ عربي إسلامي مسيحي،كذلك هناك نهل من المعتقدات الخرافية التي تحملها الشخصيات الواقعية،ولكن الالتباس سواء عندالمتلقي الناقد والقارئ كانت دوافعه الطريقة والأداة في المقام الأول والتقنيات والولوج إلي الدهاليز العميقة عند الشخصيات المطروحة في القصة،وكذلك الإغماض الفني في طرح هذه الشخصيات،ففي قصة "الشيخ عيسي"مثلا،وهي شخصية واقعية جدا وقابلة للحدوث والتكرارالمملّ في أي قرية مصرية،نتعرف عليها في القصة بعد إسهاب فني من الكاتب،هذا الإسهاب يتطرق إلي حالة القرية أولا عندما يبدأ القصة ب:(كانت البلد هامدة في التراب،قديمة ومنسية،والأرض تنفث طبقة من الحرارة،وعواء كلب ينبح في الظهر"،ثم يتحدث عن الشخصية نفسها بأسلوب جد جديد،إذ يقول أو يكتب حتي لا يغضب اللغويون:"وكان الشيخ عيسي مكوما علي مصطبته العريضة تحت تعريشة الخشب التي تتعلق بها فروع العنبة الناحلة العجفاء،وقد تدلت أوراقها المتربة،جافة صغيرة مكتومة النفس،والشيخ جامد جمود القرية كلها،وقد سكتت تحت حمل باهظ ينوء بها، ويطؤها في الحرّ،وفي آخر الحوش يبرك الجمل العجوز بجرمه الشاهق،مغمضا عينيه نصف إغماضة،يجتر طعامه ببطء ويلوك أحلاما لانهاية لها"،فالطريقة التي يستدعي بها ادوار وصف شخصياته وبنائها،طريقة تكاد تكون فريدة ونوعية في ذلك الوقت،فكانت اللغة أكثر سلاسة من ذلك،وكانت تحمل المضمون أو الفكرة،ولكن ادوار أضاف في مجموعته هذه طابعا مختلفا علي اللغة السردية المصرية والعربية،وأعتقد أن هذه الطريقة ظلت تنمو مع ادوار طوال كتاباته وإبداعاته التي ملأت الدنيا فيما بعد،وراجت واتسع تأثيرها،وأصبح لها تلاميذ وقراء ونقاد علي عكس ما تنبأ الناقد فؤاد دوارة،للدرجة التي جعلته يشفق علي ادوار الخراط،الذي تأخر في إصدار مجموعته الثانية لمدة زادت علي عشر سنوات،أي في عام 1972 صدرت مجموعته الثانية"ساعات الكبرياء"،وربما يكون التأخير لانشغالات ادوار الخراط في عمله مع يوسف السباعي بمنظمة التضامن الأفرآسيوي،وماكانت تستغرقه من جهود شاقة واستهلاك وقت كبير من حياته،وأعتقد أن السبب الثاني هو اعتقاد ادوار نفسه بأن طاقة التلقي لم تكن علي مايرام لإبداعه الذي يؤمن به،ولكن في عام 1972وكانت الذائقة قد تطورت وانفتحت علي كتاباتات وإبداعات خرجت عن صندوق الواقعية،وكان جيل الستينيات كما أسلفنا القول قد كسب مساحات وانتصارات جديدة في الساحة الثقافية والإبداعية علي مستوي مصر والعالم العربي،وقد صدرت الطبعة الأولي من "ساعات الكبرياء"عن دار الآداب في بيروت،وأعتقد أن الاستقبال النقدي كان حيويا وإيجابيا لهذه المجموعة،لذلك راح ادوار الخراط ينشر نصوصه القصصية والروائية والنقدية بشكل مكثف وملحوظ،حتي نشر أولي رواياته "رامة والتنين"عام 1979،بعد أن أثبت وجودا متميزا،وحضورا كبيرا،والتف حوله كتّاب ومبدعون،ونقاد،ولم يصبح ادوار الخراط كاتبا فردا،بل أصبح كاتبا وشيخ طريقة وعلي رأس طائفة من الكتاب تأثروا به أيما تأثير،لدرجة أن طريقة المتأثرين في طرح أنفسهم أصبحت تزعج الحياة الأدبية كثيرا،ولأن ادوار الخراط كان مخلصا لمدرسته وأهدافه الفنية راح يكتب بغزارة عن تلاميذه،ويبشر بهم،ويصدر الكتاب تلو الكتاب مقدما إياهم،وللحقيقة أن ادوار لم يكتف بتقديم تلاميذه والمتأثرين به فحسب،بل تجاوز هذه الفكرة الشللية إلي حد بعيد،فهو الذي قدم كاتبا مثل يحيي الطاهر عبدالله في مجموعته القصصية "الدف والصندوق"،التي نشرت في بغداد عام 1974،كذلك كتب عن غالب هلسا والشعراء حلمي سالم وماجد يوسف وأحمد الشهاوي وعبدالمقصود عبدالكريم وغيرهم،وأصدر كتاب "مختارات من القصة القصيرة"تناول فيه بالنقد والقراءة عددا وافرا من أدباء جيل السبعينيات،ثم أصدر كتابا آخر تحت عنوان "الكتابة عبر النوعية"،وكذلك واصل دراساته النوعية،هذه الدراسات التي أصبحت تخضع لميزان نقدي برع الخراط في ثقل أدواته،وتعميق تجاربه النقدية،ولكن هناك من كانوا يذهبون إلي ادوار الخراط في عمليات ابتزاز واضحة،ومكثفة،وربما كانت مزعجة للكثيرين،وحظي بعض من هؤلاء برأي هنا،أو بنتفة من مقال هناك،ولكن هذه النثائر النقدية لم ولن ترفع من كاتب ليس موهوبا أو حقيقيا أو صادقا،والجدير بالذكر أن ادوار كان أكثر الكتاب المرموقين في مصر في عقدي السبعينيات والثمانينيات،وكان قد قرر استثمار هذا الرواج،فأبدع معظم كتاباته الروائية والقصصية والنقدية في هذه المرحلة،وفي عام 1984 رشحته مجلة "الكرمل"ليعد بانوراما عن الأدب المصري عموما،وبالفعل أعد عددا كاملا زاد علي 350 صفحة،حاول فيه أن يجعله شاملا كافة التيارات والأجيال الشعرية والقصصية والروائية المصرية،وكتب مقدمة العدد، وأعد ندوة مثيرة عن شعر السبعينيات،وفي مقدمة العدد لا ينسي ادوار أن يكرّس لما ظل يعتقده طوال حياته،وسنلاحظ أنه كان يؤكد ماقاله مرارا وتكرارا،ولكن دوما كان يقوله وكأن هناك الجديد والمثير والمقلق فيما يقوله الخراط،إذ بدأ مقدمته بالجذور القديمة للنبتات الجديدة،وإحياء من يعتقد أن الذاكرة العمدية قد همشتهم وأبعدتهم عن المنظور النقدي،فيكتب في مستهل تقديمه:(من يقول الأدب في مصر الآنلا بد أن يقول الحساسية الجديدة،في يقين هذا سعي إلي تقديم من نوع ما،أن النقلة التي حققتها الكتابة الإبداعية،في مصر منذ الستينيات،نقلة حاسمة وأساسية،حققتها ورسختها،وأرست أسسها حقا،تطويرا وتأكيد الأصول لها وبذور مخصبة كانت قد ألقيت،أو تفجرت منذ الأربعينيات،كانت عملية المخاض،والاستيلاء،صعبة وطويلة،منذ مقامات المويلحي،المتطورة علي لسان عيساه بن هشام،وماجولينيات المنفلوطي تحت زيزفونه الباكي،الحزين،حتي زينب هيكل،المصفاة من دمها حتي الشحوب"الرومانسي"الباهت،ومن قعقعات البارودي بديباجتها الناصعة،المترفعة،ومجلجلات شوقي وحافظ، أو صياغتهما الدقيقة،اللامعة،حتي غسق أبوللو،الذي آذن بأفول الدهر الخليلي بعد أن رزح طويلا وثقيلا،وليست هذه الأسماء طبعا،إلا إشارات إلي حقبة خرج فيها الأدب،في مصر،من أسر التقليد الصراح إلي مانسميه الآنمن موقعنا اليومحساسية قديمةتقلبت فيها الأدوار والمراحل،حقا،ولكنها ظلت تنتميبشكل عامإلي فلك واحد عريض،وإن تعددت فيها المسارات.
وفي هذا التقديم لا ينسي ادوار إرسال آرائه الحادة والواضحة،والتي يرد بها اعتبارا لكتاباته وإبداعاته التي ظلت تعاني كثيرا من الاستبعاد وربما التجاهل،فنقرأه يكتب:(وإلي الحساسية التقليدية ينتمي مشاهير الكتاب المصريين ،علي تراوح تقديراتنا الممكنة لقيمتها الفنية،وهم الذين"استولوا"بمعني من المعانيعلي"السلطة"الأدبية في ساحتنا،طوال عقود ثلاثة حتي الآن،من أمثال نجيب محفوظ، وعبد الحليم عبدالله،ويوسف السباعي،حتي يوسف ادريس الذي،وإن اندرج تحت فهم واسع للواقعية الاجتماعية،فإن موهبته الحوشية، الفطرية،تجعل له مكانة قائمة برأسهاحتي جيل الوسط الغامض الأهمية،من الكتّاب الأوساط الذين كفّ الكثير منهم عن الكتابةالآن-والذين حملوا،بكفاءة متفاوتة،عبءمرحلة الواقعية الاجتماعية،بعطائها المحدود)،وبالطبع لا يحتاج كلام ادوار الواضح،والذي لا توجد فيه أي التباسات،أدني شروح وتفسيرات،فهو يعتبر أن الكتاب الذين حملوا راية الواقعية الاجتماعية علي اختلاف قدراتهم ،قد استولوا علي مقدرات السلطة الأدبية،والملاحظ أنه وضع نجيب محفوظ ويوسف السباعي وعبدالحليم عبدالله في سلة واحدة،إلي آخر ماحملته الفقرة السابقة من اعتقادات الخراط في زملائه،الذين وصلوا إلي درجات الخصومة الأدبية،حتي إن نجيب محفوظ عندما حصل علي جائزة نوبل،أجرت معه حوارا حول الجائزة،فوصف نجيب محفوظ بأنه كاتب محافظ،وموهبته موهبة متوسطة،وإن كان هناك من كان يستحق جائزة نوبل،فهو الشاعر السوري أدونيس(علي أحمد سعيد)،وهو أي ادوار الخراط نفسه،وهذا بالطبع ليس مستغربا علي كاتب حاولت الميديا والمؤسسات الثقافية العظمي استبعاده،ولكنه بدأبه وموهبته الفريدة وكتاباته المتواترة وثقافاته العميقة،استطاع أن يخط لنفسه مسارا معاكسا لهذا التهميش،فأصبح مطلوبا من جهات مصرية وعربية وعالمية،وأصبح هو نفسه سلطة أدبية وإبداعية،يرشح من يشاء لأي جائزة،أو لترجمة،أو لمؤتمر هنا أو هناك،وأطلق البعض علي هذه المرحلة بأنها المرحلة الخراطية،فكان تلاميذه وحوارييه وقصّاده يطيحون في الحياة الثقافية يمينا ويسارا،ولكن ادوار الخراط نفسه،حصل علي الجائزة التي تحمل اسم نجيب محفوظ من قسم النشر بالجامعة الأمريكية،وقال كلاما إيجابيا عن صاحب الجائزة،وأعتقد أن هذا الكلام يجب ماقبله،وهو موجود ومنشور في عدة صحف ومجلات، كل هذا يثبت أن ادوار الخراط قامة سامقة وشامخة في الثقافة والأدب المصريين والعربيين،وكان فوزه بالجائزة الكبري نوعا من العدالة المتأخرة،لكاتب ومبدع ومثقف كبير،لم يتأخر في يوم من الأيام في تقديم الجديد تلو الجديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.