مع بداية القرن الحادي والعشرين، شهدنا ميلاد حركة ترجمية هامة متمثلة في مجموعة من المؤسسات الحكومية والخاصة تقوم بالترجمة من اللغات المختلفة إلي العربية في الأساس، ومن العربية الي اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية، ويتمحور الصنف الثاني من الترجمات حول الدراسات الإسلامية وتقديم صورة الإسلام. وإذا ما كنا ننظر إلي الترجمة علي أنها الأداة الرئيسية للتمهيد لقراءة ثقافات الشعوب الأخري، من بين وسائل أخري، فمن الهام أن نتأمل الأمر من عدة مناظير يمكن سوقها في إطار تساؤلات: من يترجم؟ ولمن؟ وما هي معايير اختيار العنوان المراد ترجمته؟ وهل ترتبط المعايير بخطط وضعتها سلفا المؤسسات والهيئات الحكومية تحديداً أو الخاصة؟ وهل ترتبط معايير الهيئات الحكومية المضطلعة بالأمر بخطط لإثراء الثقافة الأم من خلال الثقافات الأخري؟ وما المحاذير السياسية والاجتماعية التي تضعها المؤسسة( عامة أو خاصة) نصب عينيها وهي تتولي عملية الانتقاء؟ وما ثقافة المترجم ودوافعه الثقافية أو المادية التي تجعلة يختار عنوانا دون آخر؟ في نفس السياق، يمكن أن نسوق تساؤلات تتعلق بالقراءة النقدية للأعمال الإبداعية المترجمة إلي العربية: ما ماهية هذا النقد؟ هل هو نقد صحفي؟ هل هو نقد أكاديمي؟ وهل يكتب باللغة العربية؟ أم يكتب باللغة الأجنبية ويظل حبيس الأدراج وأرفف المكتبات؟ وهل نقرأ ثقافات الشعوب الأخري بشكل مباشر؟ أم من خلال رؤية نقدية أخري؟ وما مدي صلاحية ذلك في باب رؤيتنا وقراءتنا للثقافة الأخري؟ إذا ما تناولنا قراءتنا للثقافة المكتوبة بالإسبانية كنموذج، لوجدنا أن الترجمة من هذه اللغة مرت بعدة مراحل مهمة، كان أولها ولا يزال العناية بما هو أندلسي، وهنا نجد أن الضوء مسلط فقط علي الترجمة لهؤلاء الباحثين والكُتاب الإسبان الذين ينتصرون للثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، مثل أمريكو كاسترو، أو هؤلاء الذين عنوا بتلك الحقبة من أمثال دوزي أو ليفي بروفنسال، أو الذين عنوا بدراسة أحوال الموريسكيين؛ ونتناسي أو نتجنب أصحاب الرأي الآخر مثل سانشيث البورنوث وخوسيه أورتيجا إي جاسيت وخوليان مارياس، أي هذه الثلة التي تمثل بشكل أو بآخر إسبانيا الأخري التي تري أن الإسهام العربي الإسلامي في الأندلس جرت المبالغة فيه وجري غمط عناصر كثيرة، منها إسهام العنصر المحلي في صناعة مسار الحضارة الأندلسية، والذي يتمثل في الإسهام الروماني والقوطي، وإسهام المستعربين الذين كانوا يعيشون في كنف الثقافة العربية الأندلسية. ومن هنا نلحظ أنه ظهرت في الآونة الأخيرة مصطلحات تميل إلي أخذ العنصر المحلي في الحسبان ومنها "الثقافة الإسبانية الإسلامية" بدلا من "حضارة الأندلس"، تماما مثلما يتحدث بعض الدارسين عن العمارة الإسلامية في مصر أو الفن الإسلامي في مصر. يترتب علي ذلك أننا عندما نتذكر إسبانيا نتذكر فقط الأندلس، ولا نتذكر أنه كانت هناك ممالك في الشمال أو في البرتغال، وأنه كان هناك صراع، وبالتالي تبقي رؤيتنا منقوصة للتاريخ. أضيف إلي ذلك، ثبات الرؤية وركونها إلي مرفأ الماضي والمكوث فيه والتغني به وبأمجاده، وبذلك نزيد من تناول هذا الدواء حتي نخفف عن أنفسنا آلام الصداع الناجمة عن واقع معاصر مثير للجدل؛ كما تنسحب هذه الرؤية علي عناصر أخري نزيد من تكثيف الأضواء حولها مثل محاكم التفتيش، الأمر الذي يسهم، ضمن أشياء أخري، في رؤية إسبانيا المعاصرة بصورة مشوهة. الإسبان اليوم غير إسبان الأمس، إنهم أصحاب موروث ثقافي كان الموروث الأندلسي أحد أهم ملامحه، وهم الذين نقلوه إلي العالم الجديد الذي اكتشفوه(الأمريكتين) وأسهموا بذلك في نشر جوانب من الثقافة العربية الأندلسية في العالم الجديد لتكون أولي الحلقات في ترحال مكونات هذه الثقافة والتي تلتها حلقات أخري مثل تلك الشهيرة بأدب المهجر (ق19-20) وما تلاها من موجات بشرية وثقافية لا زلنا نعيشها ونعيش حالة عدم الوعي بأنها امتداد نوعي وتفاعل مع ثقافات الشعوب الأخري. في سياق آخر، تحتاج قراءتنا للأدب الإسباني القديم والمعاصر إلي المزيد من التفصيل (سنفرد له مقالاً آخر)، وهو ينقلنا إلي مرحلة أخري وهي ثقافة أمريكا اللاتينية. تمثلت البدايات الأولي للاحتكاك بثقافة العالم الجديد في العصر الحديث في أدب المهجر، سواء المكتوب بالعربية أو بالإنجليزية أو الفرنسية، ثم بالإسبانية بعد ذلك بوقت كبير. وكانت الرؤية النقدية الأساسية تنحو إلي الإنتاج الفكري والإبداعي من منطلق تأثير البيئة الجديدة أو نشوء النبتات العربية في بيئة غير البيئة العربية بمفهومها السياسي والاجتماعي والديني، وتلت هذه المرحلة تسليط الضوء فقط علي هؤلاء الكتاب الذين حصلوا علي جوائز عالمية كبري، أهمها نوبل، ومنهم بابلو نيرودا عام 1971 كان المناخ السياسي والاجتماعي في بعض البلدان العربية عاملاً هيأ الوضع لترجمة نيرودا من منطلق أنه شاعر ثائر وشعره هو شعر الالتزام الذي يعني، في أحد مفاهيمه الأولية، الدفاع عن المهمشين والمحرومين والوقوف ضد الظلم والطغيان، كما أن الأحداث التي وقعت في تشيلي وأدت الي سقوط الرئيس سلفادور الليندي وبداية نظام بينوتشيه غذت هذه الصورة، التي تكونت ولم تتزحزح قيد أنملة عما هي عليه، إضافة إلي رؤية نقدية مماثلة وغير عميقة موجهة إلي عموم القراء وليس المتخصصين. يمكن القول إن حظ نيرودا كان مواتيا مقارنة بما حدث مع حابرييلا ميسترال الفائزة بجائزة نوبل قبله بسنوات عديدة( 1946)، حيث لا تكاد تحصل علي نسبة ولو صغيرة من الانتشار في العالم العربي، سواء لحظة حصولها علي الجائزة أو بعد ذلك، كنوع من رسم صورة أوضح للقارئ العربي عن مسار الأدب في أمريكا اللاتينية. تعتبر المرحلة الثالثة في باب التعرف علي الإبداع الأدبي في أمريكا اللاتينية الذي أطلقت عليه مسميات مختلفة منها "البوم" و"الطفرة" و"الواقعية السحرية" هي المرحلة الأكثر عناية في هذه المنطقة من العالم، وهنا يمكن أن نشير إلي بعض الملاحظات: أنه تم التعرف علي هذه التوجهات الجديدة بشكل غير مباشر-في البداية - أي من خلال اللغة الانجليزية والفرنسية؛ وتعرفنا علي هذه الظاهرة الأدبية بدأ متأخرا إذا ما نظرنا إلي البدايات الأولي لهذا الجيل العملاق في الستينيات من القرن العشرين، والتي توافقت مع الثورة الكوبية، وكذا إذا ما نظرنا إلي التباشير الأولي من الترجمات إلي العربية والتي كان من أبرزها ترجمة "مائة عام من العزلة" لماركيز، وإلي التأخر النسبي في حصول ماركيز علي جائزة نوبل( 1982). هناك ترجمات كثيرة وأكثر من ترجمة للعمل الواحد غير أنها ترجمات تفصح عن أن هذا الحقل من النشاط الترجمة- لا زال يعاني القصور العام من حيث غيبة معايير الاختيار وكذا المترجم المؤهل بشكل جيد سواء مهنيا أو من حيث المعرفة بالصورة البانورامية لهذه المدرسة الأدبية الجديدة، أي أن الترجمة في بلادنا لا زالت مسألة "أكل عيش" وليست أداة وعنصرا من عناصر نهضة الأمم؛ غيبة ترجمة الأعمال الكبري من هذه الابداعات أو تأخرها في الظهور؛ عدم العناية بجوانب أخري من " البوم"( ذلك المسمي الذي يراه بعض النقاد مواتيا للغاية حيث ان الانفجار الابداعي يؤدي الي انتشار الشظايا الابداعية لتكون اتجاهات مختلفة)؛ هكذا انصب الاهتمام في الترجمة علي الأعمال المتعلقة بشخصية الطاغية السياسي والظلم الاجتماعي؛ إهمال جوانب أخري مثل الأعمال الابداعية التي نري فيها الكثير من تقنيات السرد القصصي؛ العناية الفائقة بما هو سحري وخاصة ما يتعلق بتأثير ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، وكأننا بذلك أدركنا جوهر هذه التوجهات وفرحنا بتأثيرنا فيها، وكفي الله المؤمنين شر القتال. الرؤية النقدية العربية لهذا التوجه تركزت علي السحرية والواقع( الواقعية السحرية للدكتور حامد أبو أحمد) وكذا علي ملامح" الواقعية السحرية في الرواية العربية" وهنا نتساءل: هل أدي ذلك إلي وصف بعض هذه الروايات بالعالمية؟ وفي النهاية نقول إن المكتبة العربية لا تتوافر علي أعمال نقدية مترجمة نعرف من خلالها كيف يرون أنفسهم وكيف يراهم النقاد في العالم. وبمبعد عن هذا التوجه الإبداعي، نجد أن المكتبة العربية تكاد تخلو بالكامل أيضا من أي مؤلفات تتناول الحضارات القديمة لهذه البلدان وواقعها المعاصر وتوجهاتها الفكرية، فاللغة الإسبانية لغة يتحدث بها اليوم ما يقرب من خمسمائة مليون نسمة في أكثر من عشرين بلدا حققت الكثير ولا زالت ونشطت في مجالات فكرية، لكننا نصر علي الجانب الابداعي فقط وبشكل منقوص في هذا المقام، ثم نلوك العبارة القائلة بأنهم مثلنا. وختاما، نشهد الأدباء الشبان من أمريكا اللاتينية وقد ثاروا علي البوم والواقعية السحرية، أي أرادوا أن يتخذوا منحي إبداعيا آخر، لكننا لا زلنا نصر علي البقاء في لحظة معينة.