حين اعتلي بوفون Bouffon منصة الخطابة في الأكاديمية الفرنسية لتتويجه عضوا جديدا (1753)ألقي ما عنونه ب"خطاب حول الأسلوب" اشتهر أقوي ما يكون بعبارة جوهرية وردت في نصه، تناقلتها عديدُ مدونات نقدية،أحيانا بدون تمحيص، نظرا لازدواجية تأويلها في زمانها بين مرسلها وبين مناكفيه عبارة:"الأسلوب هو الرجل نفسه"،قد احتملت تفسيرات وتأويلات شتي،لا سيما وصاحبها رجل علم، وخصّ بها في الأساس الموضوع والنسقَ العلمي، لكن الاستعمال انزاح بها عن سياقها الأصلي واتجه إلي ما يميز كاتبا بعينه، أسلوبه الذي ينفرد به في معالجة الموضوع المشترك، من قبيل المعني المبذول الذي سبق الجاحظ إلي الحديث عنه في مضانه يتميز فيه اللفظ ويسمو في معيار البلاغة. وستظل هذه العبارة تشغلنا وتستحثنا كلما وقعنا علي مادة فريدة،وهي عندنا فنية (إبداعية)تتميز بأصالة معينة بانسجام مع منتجها، بين القالب ومحتواه. وأنا لا أجد أفضل من هذا البراديغم النقدي لمقاربة أعمال أخيرة لكاتب عربي، مصري، مكاوي سعيد، تحرك كتابته المياه الآسنة للنثر السائد في أيامنا،وخاصة للقوالب والفنيات المنمَّطة التي تصاغ بها المواد الاجتماعية الواقعية، في الرواية والقصة القصيرة بصفة خاصة. ومكاوي سعيد هذا،بدأ شأن أضرابه بكتابة القصة القصيرة، في أول تدريب:"الركض وراء الضوء"(1981) منتقلا إلي الرواية: "فئران السفينة"(1991) متراوحا بينهما بعد ذلك إلي صدور روايته: "تغريدة البجعة"(2007) تميز فيها رؤية وفنا بين أقرانه، تحديدا في طريقة التماس المادة الخام للواقع ومنظور فهمها الذي تطلب عنده إيجاد معادل موضوعي مغاير للواقعية الفنية كما تبلورت ووصلت إليه في الرواية المصرية خصوصا. هكذا التصق مكاوي سعيد بفضاءٍ والتقط شخصياتٍ كانت إما غُفلا أو هامشية، وإن عولجت سرديا فهي لم ترق أبدا إلي مرتبة البطولة، بل إن هذه المرتبة نفسها تتكسر عنده ليصبح الفضاء الذي يعيش أو يصطدم فيه البشر المهملون هو محفل القص الحقيقي، وهمومهم هي الهموم لا غيرها،أو بموازاتها، والكتابة الساردة والواصفة تشبه هذا العالم"الجديد" المنتقي، بإضفاء الجمال عليه ليكتسب"قبحُه"جمالية غير مسبوقة في السرد التخييلي العربي، من قبيل ما نعلم في مدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة، التي كانت طبعا. هنا حيث القبح دال ومدلول، في نسق فني خارج عن المألوف(فلليني،مثلا) انسجاما مع هذه الرؤية يدفع مكاوي سعيد كتابته لتتبلور في القالب المناسب لها،عنده، الذي يذهب إلي أقصاه،بالأحري إلي كينونته النصية، جغرافيته، منفتحة تخرق الحدود، حدود الجنس الأدبي(قصة قصيرة،رواية،Fiction عموما)كأنها لا تتسع لمشاغله، أو إن هذه تضيق خرقتها داخله، وليست من ضرب الانضواء بداخلها، هل نحتاج إلي التذكير بوحدة الشكل والمضمون، مبدأ أستيطيقيا عابرا للآداب والأزمان. هذا ما حققه بجدارة في كتاب:"مقتنيات وسط البلد"(2010) لقي استحسانا لدي صدوره، وأصبح له ما بعده، مما نحن فيه. وأهمُّهُ أن سعيدا وضع يده علي اللُّقية الفريدة،لا تشتغل بشيء، إلا بالمتلاشي، ما يصح أن يُقتني، فيما هو يُعاف، بحاسة تحدِسه، تشمّه كالكلاب المدرّبة جيدا،العين والأنف والسمع، باختصار أشياء وكتابة الحواس، مركزُها المُهمل، هو أم فعلُ إهماله يتمركز بصنيع نص يصبح في ذاته صناعة، فتأمّل أيّ جدل هو، المقتنَي هو ما أصل إليه أنا ولا تطوله يدُك مهما فعلت،لأني أنا الكاتب، وذا مدارُ عملي،كتابةٌ تقوم علي الجرف والكشط وحتي جرف نفايات الحياة، يعاد "معالجتها"،لا رومانسية هنا،لا ابتآس علي الواقع وهو مر، حنظل. العواطف متقشفة والألفاظ وعاءٌ في الحد الأدني لقول التوصيل بلا زخرفة مطلقا والتصوير هو مادته وعناصرها. وهذا هو الأسلوب الذي يختص به صاحبه الذي هو نفسه هكذا يحيا في "وسط البلد"بالقاهرة، الذي هو مركزها جسدا ومعنيً ومغني، الشكل هو المضمون، والعكس، وإلا تعال اتّبع مكاوي في وسط البلد لتراه سيدها كأنه عمدتُها برغم أنه في البندر، بصاصها، السارد العليم، ولا يشي بأحد، إلا بنتوءات وتلاوين الخفاء، إن وشي، وفي الآن، يمشي فيها علامةً وطيفا وشبحا لا يُري، عرشُه في مقهي"زهرة البستان"، إن أحب يَري. لنصل أخيرا إلي المحطة الجديدة،وهي قديمة،في مسار المشروع النثري السردي،المكاوي. أعني التي تتبلور في كتابه حديث الصدور:"أحوال العباد"(منشورات نون، القاهرة،2013) يسير فيه علي هدي عمله السابق، وفي الآن ينحرف نحو منعرج يبغيه خطا مستقيما له، حتي ولو اعوجّ عن المتوافق. لننوه أولا أن كتاب الأحوال هذا يتدرج في سلسلة أخبار وحوادث وصور وتعليقات وقراءات ولقطات وذكريات وتأملات ولوحات وصفية. جميع هذه الأنواع الكتابية تنهض علي عمادين اثنين: الموتيفات الاجتماعية والسياسية بمعني عام، والإنسانية أيضا، والثاني هو انسيابُها وفق نَسَق سردي وتمثيلي،أي أن كل نص أو نوع مما ذكرنا يتبلور ويتمثل حكائيا،بل ويتسمّي بها من البداية، كما هو في نص بعنوان:"خذوا الحكمة من أفواه البائعين"(125) بالقول:"حدثت هذه الحكاية وأنا أعمل مديرا للحسابات.." ويحكي قصة جرت له محاسبا في شركة لتوزيع الأسطوانات والفيديو وتتابع موزعا بديون وملاحقاته لهذا الزبون في تقلبات تكشف عن طبيعة هذه الشخصية في محيط بأخلاقيات معينة، وينجح أخيرا في استيفاء الدين بطريقة طريفة حقا، ملحقا بهذه الحكاية ما يعتبر الحكمة التي يمكن أن تستخلص منها، إنما جهيرة ومعبرة ومعلمة. ويحفل الكتاب بكثير من الحكايات الطريفة، تُتخذُ مطية لعرض مشكلة، أو إبراز معضلة، أو التنديد بشبهة وفضيحة،هي حكايات وقضايا مستمدة جميعها من صميم الواقع، كما يقال، إما معاينة أو بالرواية، أو باستدعاء ذكريات الطفولة، وهنا تحس أن المحكي يُسرد علي إيقاع السيرة الذاتية، بل إن كل ما يحكيه المؤلف في هذا المصنف (باعتباره يقوم علي الجمع والتدوين والتصنيف) ينقله بصوته الشخصي، بنبرته الخاصة، بدون حجاب، ولا توسل، حدثت له، أو اصطدم بها عُنوة أو هي حالات ووقائع من طفولته وما بعدها، مع فارق، لنقل تمييز مهم جدا، هو ما يصنع الفارق الجوهري في جسد هذه الكتابة بجميع مكوناتها أنواعا ومواد، كونها تدور حول الآخر،لا الأنا، الموضوع،لا الذات، الجماعة من خلال الفرد، وليس الفردية ولا الأنوية، فتنزاح عن السيرة الذاتية بانتفاء ميثاقها المجنِّس. لكن هذا كله وغيره لا يكفي، لا يُقنع كاتبا أصبح محنكا مثل مكاوي سعيد، يعطي البسيط ظاهرا، إنما يأنف من أن يُصنَّفَ بسيطا، ولذلك، إذ تراه يكسر القاعدة، يخرقها، تحس به ضمنا يتهيّب من الخرق، وهذا ببساطة لأن القاعدة تستعصي علي الكسر والزوال، لأنها تقليد عريق ومتجذر، وأقوي صمودا من إرادة الكتاب والمفكرين في التغيير. ما يعنينا هنا هو قاعدة/ قواعد الأجناس الأدبية، كل من يأنس في نفسه موهبة أو استعدادا جديا للكتابة، لا مناص له من التقيد بها، بين التقليد والحذق إن استطاع والتجريب بعد التمثل لا قبله، ولأن الفن في علمه وفي نظرية الأدب(البويطيقا) نظام، وإلا فهو هرج وكلام علي عواهنه، أحب الأدباء أو شطوّا في التمرد. فإذا ما خرق المنشئ النظام أو تعدّي عليه فإنه ينتقل إلي سجل العهن المنفوش، غير مألوف، وحكمه معروف. ومكاوي منتبه لهذا المحظور،حريص علي أن لا يضيع أجر عمله، فتحصّن لهذا في عتبة الخطاب، بدءا من الغلاف، ينبهنا بعد العنوان" أحوال العباد" بذيل له وصفه أو سماه:" كتابة خارج التصنيف"، أما التكملة فهي قوله في المقدمة:" وكنت قد ابتعدت عن القالب الصحفي فيما أكتبه، واخترت قالبا أقرب إلي نفسي ووجداني، وهو قالب يقترب كثيرا من روح القص والحكي بقدر ابتعاده عن الجمود ونضوب الخيال(...) وقدمت من خلال القالب صورا من مشاهداتي ورؤاي وبعضا من تجاربي وخبراتي، وشذرات من سيرتي وقراءتي". وسؤالنا: هل يكفي هذا التصريح تحصينا، وهل التذييل قادر أن يكون شفيعا في الخرق، أو الخبط، أو فقدان دليل السير؟ ليس المقام هنا مناسبا ولا متاحا لمناقشة نظرية الأجناس الأدبية بالدقة المطلوبة وتفريعاتها انزياحات النصوص في ضوئها، كفيل وحده بتقديم الإضاءات الشافية عن هذا الموضوع. ما لا يمنع من القول بأن وعي الكاتب بوجود كتابته في منزلة بين المنزلتين أو المنازل هو في حد ذاته بداية جواب، وطريقة لطرح الإشكالية(الفنية)، وحده المطالب بمعالجتها علي النحو الذي يراه مناسبا، نحو النص المقترح،علي القراء عامة، والمحترفين خاصة، يبدو أنه يهابهم ويقدّر ذائقتهم، فتراه يعلن بَرَمَهُ من المقال الصحفي(المبتذل)و(العرضي،الزائل) ephemeral متطلعا إلي الأفضل والأنقي والأبقي، إلي الأدب بطبيعة الحال، يعي أنه لا يتحقق صافيا في نصوص هذا الكتاب، فلا بأس إن تأتيّ نصفُه أو بعضُه، جريا علي القاعدة الفقهية:" ما لا يدرك كله لا يترك جله". و"أحوال العباد" بعد هذا كما هم في عين ومصيدة مكاوي سعد، وفي نسيج تأليفه وصناعته، تستحق القراءة والإعجاب، لأنها ملتقطة وناضجة في عالم لهب، من ثورة وغضب، وفيها استدعاء للقارئ كي يشارك (ديموقراطيا) في الكتابة بواسطة تلقي التصنيف من عنده، وكذلك فعلت أنا القارئ أحمد المديني حين اقتنيت نسختي الصيف الماضي من كشك في طلعت حرب بالقاهرة الثائرة، وذهبت إلي سعيد في مقر قيادة أركانه الأدبية العامة ب" زهرة البستان"، الخارجة بدورها عن التصنيف، أطلب توقيعه، فمَهَره مشكورا بإهدائه، وما خبت في سعيي، وغرضي قضَيْتُه، أن أثبت للزمان أنني تعرفت في الوقت المناسب علي أحوال العباد، وعشت معهم هذه الأحوال. كاتب من المغرب الكتاب: أحوال العباد المؤلف: مكاوي سعيد الناشر: دار نون